ألقى سماحة العلامة السيد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبته السياسية:
عباد الله أوصيكم وأوصي نفسي بأن نصبر لنحظى بما وعد به الصابرون، والذي أشار إليه الله سبحانه وتعالى عندما قال: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}.
وعندما قال: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}، {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا}، {بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ}.
وفي الحديث: "الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد".
وفي حديث آخر: "وأن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسراً".
فلنصبر عندما تواجهنا البلاءات والتحديات والأزمات وما أكثرها، فلا نسقط أمامها ولا نخدع ولا ننهزم ولا نتراجع عن قيمنا ومبادئنا وعزتنا وكرامتنا...
لنحظى بما وعد الله الصابرون ونكون بعين الله ورعايته، فمن يتصبر يصبره الله ويكون أقدر على مواجهة التحديات.
والبداية من العدوان الإسرائيلي على إيران، والذي أظهر وبالصورة الهزيلة التي حصلت وفق ما عبر عنه أحد قادة الكيان، بأنه "مسخرة"، ليشير إلى مدى الضعف والوهن الذي يعيشه العدو على أكثر من مستوى، وهو ما أكدته سابقاً الضربة الإيرانية التي تعرض لها والتي رغم كل الحديث الذي جرى عنها فقد حققت نجاحاً عندما أنجزت أهدافها وأظهرت القدرات التي تمتلكها الجمهورية الإسلامية، والتي جعلت هذا العدو ومن يقف معه يفكر ملياً قبل أن يقدم على أي رد، ومن ثم جاءت هشاشة الرد الصهيوني لتؤكد على الحرص الكبير للكيان على عدم التصعيد تخوفاً من اندلاع حرب مباشرة مع إيران.
لقد شعر هذا الكيان ومن يقف معه، وبوضوح مدى ما سيتعرض له من مخاطر إن استمر في غطرسته، بعد أن أخذت إيران قرارها الحاسم بأنها من الآن فصاعداً لن تسكت على أي اعتداء تتعرض له، والذي عبرت عنه بعدم سكوتها على التعرض لقنصليتها رغم كل الحديث الذي كان يجري بأنها ستبتلع ما جرى ولن يكون لها الجرأة على مواجهة الكيان الصهيوني، ولقد تأكد أن صبرها وعضها على الجراح ما كان إلا حرصاً منها على السلام في هذه المنطقة وفي هذا العالم، لكنها رأت أخيراً أن مثل هذا النهج لم يعد يُجدي أمام هذا الكيان وداعمي عدوانه.
لذا جاء الرد الإيراني ليؤكد وبما لا يقبل الشك، حجم القوة التي باتت تمتلكها إيران والتقدم الذي وصلت إليه على صعيد القدرات العسكرية رغم الحصار الذي تعرضت له، وأنها قادرة على ضرب الكيان الصهيوني في عقر داره، وأن تحقق أهدافاً كانت تريدها رغم حجم المساندة التي تأمنت لهذا الكيان من العديد من الدول والدعم الذي حصل عليه.
إننا أمام ما جرى وما قد يجري، ندعو العالم الذي ساند ويساند هذا الكيان، أن يعي مخاطر الاستمرار بهذا الدعم له وإعطائه الحق أن يفعل ما يريد وكيفما يريد، وما قد يؤدي إليه ذلك من مخاطر على السلم العالمي، ما يتطلب من هذا العالم أن يعمل على لجم هذا الكيان ومنعه من التمادي في عدوانه والذي هدد به عبر وزير حربه، عندما أشار أن طائراته تستطيع أن تصل إلى أي مكان في الشرق الأوسط... ذلك أن هذا التمادي لن يكون لمصلحة العدو بعدما ثبت بكل بوضوح أن هناك في هذا العالم من لا ينام على ضيم ولا يقبل الذل ولا يرضى بالهوان، وأن منطق القوة الذي لا يزال يُراهن عليه لإخضاع هذه المنطقة ومصادرة قرارها لم يعد يجدي وأن ما يجدي هو احترام حق الشعوب وأخذ خياراتها واحترام سيادتها على أرضها.
ونعود إلى غزة وجرحها النازف، والتي لن يكون هناك أي حل في المنطقة إلا بإيقافه، حيث لا يزال العدو يصر على ارتكاب مجازره فيها، وهو ما تشير إليه أعداد الضحايا الذي يسقطون يومياً والمقابر الجماعية التي اكتشفت أخيراً، فيما يستمر تدميره لكل مظهر من مظاهر الحياة فيها، ما يؤكد إصراره على تهجير أهالي القطاع تمهيداً لإنهاء القضية الفلسطينية، من دون أن يبدي هذا الكيان أي استعداد أو رغبة بالانصياع إلى قرار الأمم المتحدة الذي تدعوه إلى وقف أطلاق النار، وبالتوصل إلى حل ينهي معاناة هذا الشعب، عبر المفاوضات رغم كل ما يقدمه المفاوض الفلسطيني من تسهيلات على هذا الصعيد، بل نشهد تأكيداً منه على الاستمرار في قراره بالدخول إلى رفح كآخر معقل فيها، والذي يستكمل باستباحة جيشه مباشرة أو عبر مستوطنيه للفلسطينيين في الضفة الغربية.
إننا أمام ما جرى، نحيي مجدداً الشعب الفلسطيني ومقاومته وكل الذين يقفون إلى جانبه، بما يقدمونه كل يوم من أنموذج في الصبر والثبات والتصدي لهذا الكيان، ومنعه من تحقيق أهدافه...
ونصل إلى لبنان، الذي ارتفعت فيه حدة المواجهات مع هذا العدو إيماناً منه بنصرة هذه القضية وعدم ترك الشعب الفلسطيني وحيداً، تشهد على ذلك العمليات النوعية التي تقوم بها المقاومة، لتؤكد بأن هذا الوطن لن يكون لقمة سائغة له وأنه قادر على رد عدوانه.. فيما تستمر تهديدات العدو ويقوم بالمناورات التي تحاكي حرباً على لبنان، ويستمر بالتدمير لكل مظاهر الحياة في القرى الآمنة...
وهنا نجدد دعوتنا للبنانيين إلى تلمس خطر هذا العدو، وأن يصغوا إلى ما يقوله هذا العدو بأنه لن يوقف حربه على لبنان إن وقفت الحرب على غزة، وأن لا يعتقدوا أنهم بعيدون عن استهدافه، وهو الذي يرى لبنان نقيضاً له، ما يتطلب الحرص على الوحدة الداخلية والسلم الأهلي لعدم السماح للعدو بالاستفادة من أي ضعف على صعيد الجبهة الداخلية، وإذا كان من خلافات داخلية، فلا ينبغي أن تؤدي إلى توتر داخلي أو تعبث بسلمه الأهلي أو إلى إضعاف موقف لبنان أمام هذا العدو.
وفي الوقت نفسه، فإننا نعيد التأكيد على ضرورة الاستجابة لكل الدعوات التي تريد لهذا البلد أن لا يبقى فريسة الفراغ بعدما أصبح واضحاً تداعيات ذلك على صعيد معالجات الملفات الداخلية والتي من الواضح أنها ستزداد سوءاً إن على الصعيد الاقتصادي والمعيشي والحياتي، لا سيما معالجة أزمة النزوح السوري التي باتت معالجتها أمراً ضرورياً وملحاً لما تتركه من تداعيات سلبية على الوضع الداخلي.
ونبقى على صعيد الداخل، لننوه بدور القوى الأمنية في عملها الدؤوب لمواجهة عصابات السرقة التي باتت تلجأ حتى إلى القتل لتحقيق غاياتها والوصول إلى أهدافها، فيما نجدد دعوتنا إلى الإنصاف وعدم تحميل كل السوريين تبعات ما يقوم به أفراد منهم من جرائم ويكون ذلك مبرراً لممارسات تسيء إليهم.