ألقى سماحة العلامة السيد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبته السياسية:
عباد الله أوصيكم وأوصي نفسي بوصية أخرى لأمير المؤمنين(ع)، عندما قال: "أَمَّا وَصِيَّتِي: فَاللهَ لاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً، وَمُحَمَّداً(ص) فَلاَ تُضَيِّعُوا سُنَّتَهُ، أَقِيمُوا هذَيْن الْعَمُودَيْنِ، وَأَوْقِدُوا هذَيْنِ الْمِصْبَاحَيْنِ، وَخَلاَكُمْ ذَمٌّ (وليسن عليكم بعد ذلك من تبعة أو تقصير).. وَإِنَّمَا كُنْتُ جَاراً جَاوَرَكُمْ بَدَنِي أَيَّاماً، وَسَتُعْقَبُونَ مِنِّي جُثَّةً خَلاَءً سَاكِنَةً بَعْدَ حَرَاكٍ، وَصَامِتَةً بَعْدَ نُطْقٍ لِيَعِظْكُمْ هُدُوِّي، وَخُفُوتُ إِطْرَاقِي، وَسُكُونُ أَطْرَافِي، فَإِنَّهُ أَوْعَظُ لَلْمُعْتَبِرِينَ مِنَ الْمَنْطِقِ الْبَلِيغِ وَالْقَوْلِ الْمَسْمُوعِ.وَدَاعِي لَكُم وَدَاعُ امْرِىءٍ مُرْصِدٍ لِلتَّلاَقِي! غَداً تَرَوْنَ أَيَّامِي، وَيُكْشَفُ لَكُمْ عَنْ سَرَائِرِي، وَتَعْرِفُونَنِي بَعْدَ خُلُوِّ مَكَانِي وَقِيَامِ غَيْرِي مَقَامِي.. إن أبق فأنا وليّ دمي، وإن أفن فالفناء ميعادي، وإن أعف فالعفو لي قربة وهو لكم حسنة، فاعفوا {أَلاَ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللّهُ لَكُمْ}. واللّه ما فاجأني من الموت وارد كرهته، ولا طالع أنكرته، وما كنت إلاّ كقارب ورد وطالب وجد «وَمَا عِنْدَ اللّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَار.. أستودعكم الله جميعاً سدّدكم الله جميعاً، حفظكم الله جميعاً".
أيُّها الأحبّة:
هذه وصية أمير المؤمنين(ع) لنا، فلنأخذها لنعبر بها عن حبنا له وولائنا ووفائنا له، وبذلك نكون أكثر وعياً ومسؤولية وقدرة على مواجهة التحديات...
والبداية من غزة التي يواصل العدو الصهيوني ارتكاب مجازره بحق المدنيين وهم في بيوتهم أو مراكز إيوائهم ويلاحقهم حتى وهم في المستشفيات، في وقت يستمر حصاره لأهلها رغم المناشدات التي تدعوه إلى فتح المعابر والسماح للشاحنات بالدخول إليها.
فيما لا تزال المفاوضات رهينة تعنت هذا العدو الذي يرفض أي دعوة لإيقاف نزيف الدم والدمار. وذلك رغم المرونة التي أبداها ولا يزال يبديها المفاوض الفلسطيني، وهو يعلن جهاراً أنه سيواصل حملته العسكرية إلى رفح من دون أن يأخذ في الاعتبار وجود ملايين النازحين فيها الذين قدموا من مختلف أرجاء القطاع.
في هذا الوقت، يأتي القرار الأممي الذي يدعو الكيان الصهيوني إلى إيقاف فوري لإطلاق النار المباشر، والذي أتى هذه المرة من دون استخدام الفيتو الأميركي الذي عطل القرارات السابقة.
ونحن نرى إيجابية لهذا القرار ونلمس فيه تحولاً ولو نسبياً في الموقف من الحرب على غزة.
ولكن لا يبدو أن هذا القرار آخذ بالتنفيذ لكونه لا يحمل أي طابع الإلزام لهذا الكيان، وهو ما عبّرت عنه الخارجية الأميركية منذ صدوره أو أن توضع له آلية للتنفيذ، ولم يواكب بالعقوبات، ما يجعل هذا القرار عديم الجدوى عملياً أسوة بكل القرارات الدولية التي أدار لها هذا الكيان ظهره، ولم ينفذها وبقيت حبراً على ورق.
لذلك يبقى الخيار لدى الشعب الفلسطيني هو الثبات والصمود والدفاع عن أرضه، وعدم السماح للعدو بتمرير مشروعه بالاستيلاء عليها وتهجير أهلها منها...
ونحن هنا نحيي بطولات هذا الشعب الذي يستمر في مواجهته لهذا الكيان رغم الصعوبات التي يعاني منها على صعيد احتياجاته من الغذاء والدواء والمأوى بفعل الحصار المطبق عليه أو بفعل القدرات العسكرية والأمنية التي تفوق إمكاناته.
وهنا نجدد دعوتنا للدول العربية والإسلامية، إلى أن يعوا جيداً مخاطر تحقيق العدو أهدافه في غزة، والتي لن يكونوا بمنأى عن تداعياتها، في الوقت الذي نهيب بالشعوب العربية والإسلامية وأحرار العالم أن يبقوا أصواتهم عالية وأن يعوا أهمية هذه الأصوات وما أدت إليه في الضغوط على دولهم ومحاصرة هذا الكيان وتعريته.
وإلى سوريا، التي يصعد العدو الصهيوني في استباحته لسيادة هذا البلد العربي، واستهدافه بشكل يومي ما يهدد أمنه ويزيد من معاناته، وهو ما يدعو إلى موقف عربي موحد في مواجهة هذا الكيان وردعه ومنعه من مواصلة عدوانه، لأن استمرار السماح له بذلك تحت أي حجة، سيجعله يستهدف أي بلد عربي آخر عندما تقتضي مصالحه وحساباته ذلك.
ونصل إلى لبنان الذي يشهد هذه الأيام تمادياً في العدوان عليه الذي وصل إلى أقاصي البقاع، واستهدافاً للمراكز الصحية والدفاع المدني، في وقت يستمر هذا العدو بممارسة التدمير المنهجي للبيوت في المناطق الحدودية، وهو لا يتوقف عن التهديد بتوسيع دائرة العدوان ليطاول العمق اللبناني والذي ينبغي التعامل معه بكل جدية والجهوزية لأية مغامرة قد يقدم عليها.
من هنا نعيد التأكيد على ضرورة تعزيز الوحدة الوطنية وعدم السماح لكل ما يهدد هذه الوحدة سواء على الصعيد الطائفي أو المذهبي أو السياسي، والذي يستفيد منه العدو الصهيوني وهو من يسعى جاهداً إلى دق الأسفين بين اللبنانيين بكل طوائفهم ومذاهبهم.
إننا لا ننكر وجود خلافات لبنانية حول مسائل عديدة سواء تلك التي تتعلق بالداخل في أسلوب إدارة البلد أو في النظر إلى ما يجري على الحدود الجنوبية، وقد يكون لها ما يبررها، لكن هذا لا ينبغي أن يزيد من الشرخ الداخلي ويؤدي إلى اصطفافات طائفية أو مذهبية أو سياسية، بل أن يدفع لتعزيز لغة الحوار التي تبقى هي السبيل الوحيد لمعالجة الإشكالات وإزالة الهواجس.
ونحن على ثقة بأن هذا الحوار يسهم بالوصول إلى حلول لعلاج المشكلات التي يعاني منها الوطن، وهو يمثل بديلاً من لغة التراشق بالاتهامات عن بعد والتي تزيد من مآزق البلد وأزماته، في وقت نعيد التأكيد فيه على ضرورة الإسراع بالاستحقاقات إن على الصعيد الرئاسي أو الحكومي حيث لا يمكن أن يبقى البلد رهينة الفراغ في وقت أحوج ما يكون اللبنانيون إلى دولة ترعى شؤونهم وتقوم بمسؤولياتها تجاههم، بعدما أصبح واضحاً أن الحلول لما يجري في غزة أو على صعيد المنطقة لمن ينتظر لن تكون قريبة، بل نخشى أن تكون بعيدة المنال أو تأتي على حساب هذا البلد.