06 تشرين الثاني 20 - 19:56
في ما يلي ترجمة بتصرّف، خاصة بـ"عرب 48"، لمقال الكاتب د. غوراف خانا، وهو أستاذ في قسم الفيزياء، والمدير المشارك لمركز الحوسبة العلمية في جامعة ماساتشوستس الأميركية في دارتموث. ونشر أكثر من 70 بحثًا في المجلات الدولية الكبرى وحصل على تمويل بحثي يزيد عن مليون دولار حتى الآن.
قد تكون الثقوب السوداء أغرب أجسام الطبيعة. فهي تلوي الزمان والمكان بطرق متطرفة وتتضمن استحالة رياضية تكمن بتفرّدها الجذبوي، أي بكونها أجسامًا كثيفة وساخنة بشكل لا نهائي من داخلها. ولكن إذا ما كانت الثقوب السوداء موجودة حقًا، وسوداء حقًا، فكيف سنستطيع أن نراقبها؟
في صباح يوم (السادس من تشرين الأول/ أكتوبر 2020)، أعلنت لجنة جوائز نوبل أن جائزتها للفيزياء لعام 2020، ستُمنح للعلماء الثلاثة، البريطاني روجر بنروز، والألماني راينهارت جينزل، والأميركية أندريا جيز، والذين ساهموا في استكشاف إجابات على مثل هذه الأسئلة العميقة. وأندريا غيز هي رابع امرأة تفوز بجائزة نوبل في الفيزياء.
وروجر بنروز عالم في الفيزياء النظرية، يركّز في عمله على الثقوب السوداء، ولم تكن أعماله مصدر إلهام لي فقط، بل لجيل بأكمله أثرته سلسلة كتبه المشهورة المليئة برسومه التوضيحية الرائعة المرسومة بخط اليد لشرح مفاهيم فيزيائية عميقة.
اشتهر روجر بنروز برسوماته الفيزيائية التفصيلية. وهذه إحدى رسوماته التي تستعرض كونًا فارغًا. (Wikimedia)
عندما كنت طالب دراسات عليا في تسعينيات القرن الماضي، في ولاية بنسلفانيا، حيث يشغل بنروز منصب محاضرا زائرا، أتيحت لي العديد من الفرص للتعامل معه. وعلى مدار أعوام عديدة كنت أهاب هذا العملاق المختص في مجالي، حيث كنت أخطف لمحات منه وهو يعمل في مكتبه، ويرسم رسومات علمية غريبة المظهر على لوحه الأسود. ومن ثمّ، عندما تجرأت أخيرًا على التحدث معه، أدركت بسرعة أنه من بين أكثر الأشخاص تواضعا.
الثقوب السوداء تتشكل من نجوم محتضرة
وفاز بنروز بنصف جائزة نوبل للفيزياء عن عمله الإبداعي في عام 1965، والذي أثبت، باستخدام سلسلة من الحجج الرياضية، أنه في ظل ظروف عامة للغاية، فإن المادة المنهارة من شأنها أن تؤدي إلى تكوين ثقب أسود.
وفتحت هذه النتيجة الدقيقة الباب أمام إمكانية أن تتسبب العملية الفيزيائية الفلكية لانهيار الجاذبية، والتي تحدث عند نفاد النجم من وقوده النووي، بتكوين ثقوب سوداء في الطبيعة. واستطاع أيضا، أن يُظهر أنه لا بدّ أن يكمن في قلب الثقب الأسود، تفرّد مادي، أي جسم ذو كثافة لانهائية تتفكك فيه جميع قوانين الفيزياء بكل بساطة. وفي حالة التفرد الجذبوي، تنهار مفاهيمنا عن المكان والزمان والمادة، وقد يشكل حل هذه المعضلة أكبر مشكلة مفتوحة في الفيزياء النظرية اليوم.
وابتكر بنروز مفاهيم وتقنيات رياضية جديدة أثناء تطوير إثباته الفيزيائي. وتُستخدم هذه المعادلات التي اشتقها بنروز عام 1965، من قبل علماء الفيزياء الذين يدرسون الثقوب السوداء منذ ذلك الحين. في الواقع، بعد مرور بضعة أعوام فقط، استخدم الفيزيائي الشهير ستيفن هوكينج، جنبًا إلى جنب مع بنروز، الأدوات الرياضية ذاتها لإثبات أن النموذج الكوني للانفجار العظيم، وهو أفضل تفسير حالي لكيفية نشوء الكون بأكمله، كان يتضمن تفردًا جذبويًا في أولى لحظاته.
حقيقة أن الرياضيات استعرضت احتمالية وجود الثقوب السوداء الفيزيائية الفلكية في الطبيعة، هي بالضبط ما حفز السعي للبحث عن الأخيرة باستخدام التقنيات الفلكية. في الواقع، منذ أن كشف بنروز أعماله في الستينيات، حدّد العلماء العديد من الثقوب السوداء.
الثقوب السوداء تلعب "اليويو" مع النجوم
أما النصف الآخر من جائزة نوبل للفيزياء، فقد تقاسمها عالما الفلك رينهارد جينزل وأندريا جيز، اللذين يقود كل منهما فريقًا اكتشف وجود ثقب أسود هائل، أكبر بـ 4 ملايين مرة من الشمس، في مركز مجرتنا درب التبانة.
وجينزل عالم فيزياء فلكية في معهد "ماكس بلانك" لفيزياء خارج الأرض، في ألمانيا، وجامعة كاليفورنيا في بيركلي. أما غيز، فهي عالمة فلك من جامعة كاليفورنيا، لوس أنجلوس.
موقع الثقب الأسود في مجرة درب التبانة بالنسبة لنظامنا الشمسي. يوهان جارنستاد/ الأكاديمية السويدية الملكية للعلوم.
استخدم جينزل وجيز، أكبر تلسكوبين في العالم (مرصد "كيك"، و"المقارب العظيم") ودرسا مع فريقهما، حركة النجوم في منطقة تسمى " الرامي أ*"، والتي تقع في مركز مجرة درب التبانة. واكتشفا، كلٌ على حدا، أن جسمًا هائلًا للغاية، أكبر بـ4 ملايين مرة من الشمس، وغير مرئي، يسحب هذه النجوم، ليجعلها تتحرك بطرق غير عادية بالمرّة. ويعُد اكتشافهما هذا، أكثر الأدلة إقناعا على وجود ثقب أسود في مركز مجرتنا.
وتعدّ جائزة نوبل للفيزياء هذا العام، والتي تأتي في أعقاب جائزة نوبل لعام 2017 لاكتشاف موجات الجاذبية من الثقوب السوداء، والاكتشافات المذهلة الأخرى في هذا المجال، مثل الصورة التي اكتُشفت عام 2019 لأفق الثقب الأسود بواسطة "مقارب أفق الحدث"، بمثابة تقدير وإلهام كبيرين للبشرية جمعاء، خاصة بالنسبة لنا نحن في مجتمع النسبية والجاذبية، الذين نسير على خطى ألبرت أينشتاين نفسه.