لم تكن ورشة المنامة، التي اختتمت يوم الأربعاء، وباستثناء إظهارها حجم اتساع التطبيع بين دول عربية والاحتلال الصهيوني، أكثر من تأكيد جديد على حجم تخبط الولايات المتحدة الساعية لفرض خطة إملاءاتها لتصفية القضية الفلسطينية، لكن من دون امتلاكها القدرة على تحقيق ذلك أو الاعتراف بفشلها، في ظلِّ انفصال تصورات فريق الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن الواقع وابتعاده عن أصل الصراع والانحياز المطلق للاحتلال وتجاوز حلّ الدولتين، مقابل الغرق في مجموعة من الأوهام بإمكانيَّة إجبار الفلسطينيين على الانصياع للمخططات الأميركية والقبول بمبدأ الرشى المالية للتنازل عن الحقوق.
وبعد الضغط الأميركي على دول عربية عدة للمشاركة في المؤتمر، بعد المقاطعة الفلسطينية واللبنانية والعراقية، وهو ما تجلى بتفاوت مستوى التمثيل العربي، افتتح المؤتمر بخطاب مليء بالمفارقات والتناقضات والتخبط، ألقاه مستشار الرئيس الأميركي وصهره، جاريد كوشنر، على مسمع مسؤولين عرب وأجانب جاء بعضهم ليكتفي بمعرفة ما ترغب به الولايات المتحدة، التي تريد من الدول الخليجية أن تمول الصفقة التي ترغب بتطبيقها في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وتريد من خلالها إجبار الفلسطينيين على التنازل عن حقوقهم في الأرض مقابل بضع مليارات لا تساوي ثمن صفقات الأسلحة التي أبرمها ترامب مع عدد من دول الخليج منذ وصوله إلى الحكم.
والبعض الآخر حضر الورشة لينظّر من خلال ما أظهرته الجلسات لكيفية تحقيق السلام تحت الاحتلال وتوسيع نفوذ المحتل على حساب أصحاب الأرض، فحضرت مقترحات مثل منح كلّ شاب فلسطيني 5 آلاف دولار "لتحقيق أفكاره"، والتركيز على الموسيقى والرياضة، والاقتداء بنموذجي سنغافورة وموزامبيق.
واستدعى خطاب كوشنر المربك في افتتاح الورشة، وفي ختامها، والمداخلات التي ألقيت وتضمنت آراء كان بعضها منفصلاً عن الواقع، سخرية مراسلين حضروا الفعاليات المواكبة لليوم الأول والثاني، فيما لخصت صحيفة واشنطن بوست الأميركية ما جرى بالقول إن من الصعب استذكار مبادرة دبلوماسية أميركية لاقت تهكماً وسخرية بالقدر الذي تلاقيه ورشة صهر الرئيس الأميركي دونالد ترامب، جاريد كوشنر، بعنوان "السلام من أجل الازدهار"، والتي تعقد في العاصمة البحرينية المنامة، مشيرة إلى أنها تمثّل "كل ما هو خطأ في مقاربة البيت الأبيض للسلام في الشرق الأوسط". كما ذهبت صحيفة الغارديان إلى الاستنتاج نفسه، واصفة خطة كوشنر بأنها "مسرحية هزلية"، تستحق "الاستقبال الساخر" الذي لاقته.
كوشنر، الذي أوكل إليه ترامب صياغة تصوّر للسلام الفلسطيني الصهيوني، والذي اختار منذ البداية التعامل مع الملف بمنطق رجل الأعمال والأرقام وتناسي وجود كيان محتل، حاول تبرير إصراره على الترويج للشق الاقتصادي من خطة الإملاءات وتقديمه على المسار
السياسي الذي يعد أساس أيّ حلّ. العرض الذي قدمه على شاشة كبيرة في الجلسة، وحديثه المشبع بالأرقام عن حجم الاستثمارات المتوقع جذبها وتتجاوز قيمتها خمسين مليار دولار ومليون فرصة عمل، ومضاعفة الإنتاج المحلي الفلسطيني خلال مدة تنفيذ ما سماه بـ"فرصة القرن" وليس "صفقة القرن" الممتدة على عشرة أعوام، لم يبد مقنعاً، بل أظهر حجم التناقض.
من جهة، تحدَّث كوشنر عن أنّ "التوافق حول مسار اقتصادي شرط مسبق ضروري لحل المسائل السياسية التي لم يتم إيجاد حل لها من قبل"، لكنه سرعان ما ناقض نفسه، واعترف بما كان يحاول إنكاره، لجهة أن "النمو الاقتصادي والازدهار للشعب الفلسطيني غير ممكنين من دون حل سياسي دائم وعادل للنزاع يضمن أمن إسرائيل ويحترم كرامة الشعب الفلسطيني".
أما حديثه عن عدم خذلان الفلسطينيين بعد كل مظاهر الانحياز للاحتلال، بدءاً من الاعتراف بالقدس المحتلة عاصمة للكيان الصهيوني، ونقل السفارة الأميركية إليها، والترويج للتوسع الاستيطاني في الضفة الغربية، وقطع المساعدات الأميركية للفلسطينيين، والحصار المالي على وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" لمحاولة تصفية حق العودة، فاستدعى رداً من أمين سرّ منظّمة التحرير الفلسطينيّة صائب عريقات، في تغريدة قال فيها إن "إدارة ترامب لم تتخل عن الفلسطينيين
وحسب، بل تخلّت أيضاً عن السلام والعدالة والمبادئ الأساسية للإنسانية".
من جهتها، أكَّدت منظمة التحرير الفلسطينية رفضها الخطة الاقتصادية، قائلة إنَّ الافتقار إلى الرؤية السياسية للاقتراح يضمن فشله. وأشارت في بيان إلى أن إدارة ترامب تريد بيع سراب ازدهار اقتصادي لن يؤدي إلا إلى إدامة أسر الفلسطينيين. وقال البيان إنه لا يمكن تحقيق السلام من دون إنهاء الاحتلال الصهيوني والهيمنة الاقتصادية، واتهم البيان البيت الأبيض باستخدام الورشة كغطاء لجهود الكيان الصهيوني لتحقيق علاقات طبيعية مع الدول العربية وزيادة مستوطناتها في الضفة الغربية المحتلة، وخصوصاً بعد أن جمعت واشنطن دولاً عربية مع مسؤولين غربيين وممثلين للكيان الصهيوني...
وما بدأه كوشنر يوم الثلاثاء من حديث عن تصورات مشبعة بالأوهام والانفصال عن الواقع، استكمله الأربعاء بقوله إن القضايا الاقتصادية في الصراع الصهيوني الفلسطيني يمكن حلها، وإنه سيطرح خطة سياسية عندما يكون الوقت مناسباً، فيما أقر عن غير قصد بفضيحة الورشة بقوله: "استطعت جمع الناس الذين يرون الأمر مثلما أراه، وهو أنه مشكلة يمكن حلّها اقتصادياً". وتابع تبريراته بالقول: "اعتقدنا أن من المهم طرح الرؤية الاقتصادية قبل الرؤية السياسية... لأننا بحاجة إلى أن يرى الناس كيف يمكن أن يكون المستقبل".
كذلك، كرّر اللازمة نفسها بأنَّ "الباب لا يزال مفتوحاً أمام الفلسطينيين للانضمام إلى الخطة"، متّهماً السّلطة الفلسطينية بالفشل في مساعدة شعبها. وأضاف: "لو أرادوا فعلاً تحسين حياة شعبهم، فإننا وضعنا إطار عمل عظيم يستطيعون الانخراط فيه ومحاولة تحقيقه". وأضاف كوشنر أن الإدارة الأميركية ستبقى "متفائلة".
ولم يكن مضمون حديث كوشنر، الذي جمع حوله في الورشة كلّ من يؤيد رؤيته فقط، بعيداً عما قاله مسؤولون ماليون ومستثمرون دوليون، إذ بدوا وكأنهم يكررون لازمة واحدة عنوانها أن الاستقرار والأمن مهمان لنجاح الخطة. والقفز المتعمد لكثير من الحاضرين عن حقيقة الاحتلال الصهيوني لفلسطين والسعي الأميركي لإدامته، ترافق مع انغماس البعض في التنظير الاقتصادي، القائم على افتراض أن خطة الإملاءات ستجد طريقها إلى التطبيق، بلغ حد القول إنَّ "الخطة ستعاني من دون حكم رشيد وسيادة القانون وأمل واقعي بتحقيق سلام دائم".
وفي السياق، نقل مراسل الشرق الأوسط في مجلة "ذي إيكونوميست" البريطانية، غريغ كارلستروم، عبر حسابه على تويتر، باستهزاء ما يحصل داخل جلسات ورشة المنامة، ملقياً الضوء على أحاديث تبدو أبعد ما يكون عن المعرفة بالواقع الفلسطيني أو الارتباط به.
وأشار كارلستروم إلى ما ورد على لسان رجل الأعمال الأميركي ستيف شوارتزمان، الذي قال إنّ ثروته الصافية تتخطى الناتج المحلي
السنوي لفلسطين، موضحاً أنه "وقف على المنصة ليخبر الفلسطينيين بأن عليهم أن يكونوا مثل سنغافورة"، معقباً بالقول: "هذا أطرف شيء شاهدته على الإطلاق".
ولفت إلى سؤال مدير الجلسة لشوارتزمان ورجل الأعمال الإماراتي محمد العبار، حول ما يمكن أن يشعرهما بالاطمئنان للاستثمار في الأراضي الفلسطينية المحتلة العام 1967، مشيراً إلى أنّ أياً منهما لم يذكر التفاصيل البسيطة للاحتلال الصيهوني منذ أكثر من نصف قرن.
كذلك، لفت إلى حديث لمديرة صندوق النقد الدولي، كريستين لاغاراد، التي تحدّثت "عن دروس من الموزامبيق يمكن تقديمها إلى فلسطين"، من دون تقديم إيضاحات حول المقصود. وفي السياق، أشارت لاغارد إلى أن للفلسطينيين إمكانيات اقتصادية كبيرة لا يمكن تحقيقها إلا بإصلاحات اقتصادية، والتي يجب أن تشمل جهوداً جادة لمكافحة الفساد. وأضافت أن تلك الأمور ضرورية لتحقيق "سلام مرضٍ"، متوقفة عند غياب عنصر السلام في المبادرة.
كما نقل كارلستروم ما قاله الملياردير توم برّاك، الذي وصفه بأنه الممول اللب ناني- الأميركي المراوغ الذي ساعد في تقديم كوشنر إلى حكام الخليج. وقال الأخير: "لقد كان العرب دائماً سيئين في الترويج لأنفسهم".
كذلك، أضاء كارلستروم على إجابة لرئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم، جياني إنفانتينو، خلال إحدى الجلسات أمس، عندما سأله مدير
الجلسة عن زيارته إلى فلسطين في وقت سابق، قائلاً: "أخبرنا كيف يعيش الشعب الفلسطيني؟". ليجيب إنفانتينو: "حسناً، ذهبت كسائح، وكنت هناك فقط لمدة يوم ونصف اليوم، لكن يبدو أنّ الناس هناك يحبون الرياضة والموسيقى".
ولم تتوقف حدود المهزلة عند هذا الحدّ، إذ إنه، وبحسب غريغ، بعد ثلاث جلسات كان المتحدثون فيها جميعهم من الرجال، قرَّر المنظمون أخيراً تخصيص جلسة تضم النساء للحديث عن الحاجة إلى دورهن، لكن اللافت، بحسب غريغ، كان الاستماع إلى حديث حول ما إذا كان الأزواج المصريون يعترضون على عمل زوجاتهم كسائقات لصالح خدمة سيارات الأجرة "بينك تاكسي"، مستغرباً من طرح موضوع كهذا، ومتسائلاً عن علاقته بالصراع الصيهوني الفلسطيني.
في هذه الأثناء، لم تبد المداخلات العربية في أعمال الورشة بعيدة عن هذه الأجواء. وزير الدولة السعودي، عضو مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية في السعودية، محمد آل الشيخ، قال إن وجود "أمل حقيقي بتحقيق سلام مستدام" هو شرط لنجاح الخطة الاقتصادية.
وأشار إلى أن الخطة الاقتصادية يمكن أن تنجح حتى بأموال أقل إذا أمكن "تحقيق الأمل بالسلام للجميع". وفيما ذكر وزير المالية السعودي محمد الجدعان أن المملكة ستؤيد أي خطة اقتصادية تحقق الازدهار
للفلسطينيين، قال وزير الدولة الإماراتي للشؤون المالية عبيد حميد الطاير إنه ينبغي إعطاء فرصة لهذه المبادرة.
من جهته، قال رجل الأعمال النيجيري، رئيس شركة لإيريس هولدنغ، توني إليوميلو، إنَّ شركته مستعدة لتقديم الدعم والمساعدة في هذه المنطقة من الشرق الأوسط، واقترح إعطاء كلّ فرد من الشباب الفلسطيني 5 آلاف دولار لتحقيق أفكارهم.