22 كانون الأول 23 - 11:48
ألقى سماحة العلامة السيد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبته السياسية:
عباد الله أوصيكم وأوصي نفسي بما أوصى به رسول الله(ص) أحد أصحابه، عندما قال له: "احفَظِ اللَّهَ يحفَظكَ، احفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تجاهَكَ (وهذا يتم بحفظ الإنسان حدود الله وحقوقه وأوامره ونواهيه، ومتى حصل ذلك فسيفي الله له بما وعده به، وهو الذي قال: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ})، ثم قال: إذا سأَلتَ فاسألِ اللَّهَ، لأنك إن سألت غيره فيسكلك إليه، وإذا استعَنتَ فاستَعِن باللَّهِ، واعلَم أنَّ الأمَّةَ لو اجتَمعت علَى أن ينفَعوكَ بشَيءٍ لم يَنفعوكَ إلَّا بشيءٍ قد كتبَهُ اللَّهُ لَكَ، ولو اجتَمَعوا على أن يضرُّوكَ بشَيءٍ لم يَضرُّوكَ إلَّا بشيءٍ قد كتبَهُ اللَّهُ عليكَ"، وهو قال: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}".
أيُّها الأحبّة:
إننا أحوج ما نكون إلى هذه الوصايا التي تدعونا إلى أن نعزز علاقتنا بالله بحيث لا نرى غيره رازقاً ومعيناً وناصراً، ومتى عززنا علاقتنا بالله، فسنكون في عينه ورعايته، وبذلك نكون أقوى وأقدر على مواجهة التحديات...
والبداية من غزة التي لا تزال تقدم أنموذجاً فريداً في الصبر والثبات على الموقف رغم المجازر والتدمير الذي تتعرض له، فيما تستمر مقاومتها بتقديم أمثولات من البطولة والجرأة والإقدام في مواجهة آلة العدو العسكرية رغم عدم التكافؤ في القدرات والإمكانات وهي تمنعه من التقدم، وإن هو تقدم لا يتمتع بالاستقرار في الأرض التي يتقدم فيها، ما يعطيه درساً أنه مهما فعل هو غير قادر على إطفاء جذوتها.
يحصل ذلك رغم الصمت الإقليمي وكل الدعم الدولي الذي لا يزال يحظى به هذا العدو والضوء الأخضر الذي مُنح له إلى درجة منع أي قرار يدينه من دون الأخذ في الاعتبار التبعات الكارثية لعدوانه، والجرائم التي نشهدها ويشهدها العالم على الشاشات ومواقع التواصل والتي جعلت رئيس الصليب الأحمر الدولي يقول: "غزة تمثل فشلاً أخلاقياً للمجتمع الدولي"، وما ورد في بيان الأمم المتحدة: "غزة هي أخطر مكان لعيش الأطفال في العالم". وإذا كان من انتقادات أو إدانات بدأنا نشهدها من هذه الدول للكيان الصهيوني لاستهداف المدنيين، إلا أنها ليست بالمستوى الذي يدفع العدو إلى إيقاف نزيف الدم والدمار الذي يحصل، بل تبقى في إطار النصائح والتمنيات التي لا يقيم لها العدو وزناً أو أهمية ولا تسمن ولا تغني من جوع.
إننا أمام ما يجري، نجدد اعتزازنا بهذا الشعب ونحيي صموده، وندعو مجدداً الدول العربية والإسلامية المعنية بهذا البلد لكونه جزءاً من العالم العربي والإسلامي، إلى اتخاذ مواقف جادة لمنع ما يحصل، ووقف تمادي العدو في جرائمه بحقه، وعدم الاكتفاء ببيانات الشجب والإدانة لهذا العدو، بما قد يشي بالتواطؤ معه.
ونحن على ثقة بأن هذه الدول قادرة على التأثير إن تكتلت جهودها وطاقاتها وتعاونت في ما بينها وبادرت إلى اتخاذ مواقف حاسمة، إننا لا ندعوها إلى أن تستخدم أسلحتها في مواجهة هذا العدو بل نرى أن لديها الكثير لتُفعّله إن على الصعيد السياسي أو الاقتصادي أو الدبلوماسي.
وهنا نتساءل أين أصبحت القرارات التي صدرت عن القمة العربية والإسلامية التي انعقدت أخيراً في الرياض...
إن من المؤسف أن نشهد ارتفاع أصوات ومسيرات تندد بكيان العدو تخرج من دول الغرب رغم التضييق الذي يمارس عليها والتحذير من عواقب تحركها، ولا نشهد ذلك في الدول العربية والإسلامية وإن خرجت فهي تبقى دون حجم المأساة التي تحصل في غزة.
إن الإبادة التي تحصل في غزة وتستكمل في الضفة الغربية، تقتضي من الجميع تجميد كل الاعتبارات والحسابات والحساسيات إن على الصعيد العربي والإسلامي أو على الصعيد الفلسطيني التي قد تمنع من اتخاذ مواقف لنصرة الشعب الفلسطيني وقضيته، فلا بد من أن يكون الموقف موحداً في مواجهة ما يجري وتناسي كل الصراعات السابقة، لأن المخاطر لا تستهدف جهة أو فصيلاً أو دولة، بل هي تستهدف القضية الفلسطينية التي هي قضية العرب والمسلمين الأولى، والتي يؤدي التفريط بها إلى إسقاط المقدسات وكل عناوين الحرية والسيادة لبلداننا في هذه المنطقة والقيم التي نحملها.
وهنا لا بد من أن ننوه بكل المواقف الجريئة، لكل القوى التي تقدم كل ألوان الدعم إلى الشعب الفلسطيني رغم وعيها لأي تبعات قد تحصل من وراء ذلك، وندعو إلى المزيد من الدعم حتى يشعر الشعب الفلسطيني أنه لا يقف وحده في مواجهة هذا الكيان، بل هناك من يقف معه ومستعد أن يشاركه في هذه المواجهة وتحمّل أكلافها الباهظة.
ونصل إلى لبنان الذي لا يزال يقدم التضحيات الجسام في مواجهة العدو الصهيوني، في ظل تمادي هذا العدو الصهيوني في اعتداءاته التي وصلت إلى حد استهداف المدنيين في بيوتهم.
إننا اليوم نحيي بطولات المقاومة وصمود أهالي قرى المنطقة الحدودية والتضحيات الجسام التي تقدم في هذا الطريق، وأخص بالذكر عيتا الشعب التي قدمت حتى الآن تسعة شهداء فضلاً عن الدمار الذي حل بها، في الوقت الذي نعيد دعوتنا لكل اللبنانيين إلى التعامل بكل جدية مع التهديدات التي ينقلها الموفدون الدوليون، والتي يريد من ورائها فرض شروطه على هذا البلد والمس بسيادته والتي تدعو إلى تطبيق القرار 1701 بالشروط التي يريدها هذا العدو، والتي تحمي كيانه بدون الأخذ في الاعتبار هواجس اللبنانيين وخوفهم الدائم من غدر هذا العدو والذي أثبته تاريخه وحاضره.
وهذا يدعو إلى تحصين الساحة الداخلية وتجميد الخلافات التي تعصف بهذا البلد، وبالعمل الجاد لسد الثغر الحاصلة على صعيد مؤسسات الدولة، وملء الفراغات فيها ولا سيما في موقع الرئاسة الأولى، باعتباره الأساس في كيان الدولة، ولمعالجة كل الملفات العالقة، ولمواكبة ما يجري من مواجهات في الداخل اللبناني أو على صعيد المنطقة...
وهنا نأمل أن ينعكس التوافق الذي حصل في المجلس النيابي وأدى إلى منع الشغور على صعيد قيادة الجيش على إنهاء الشغور على صعيد رئاسة الجمهورية الذي لا يمكن أن يحصل إلا بالتوافق وبالتوافق فقط، وعدم انتظار ــ كما ينتظر البعض-وضوح الصورة في المنطقة بعد الوصول إلى وقف إطلاق النار في غزة أو ما قد يحصل في الجنوب اللبناني.
لقد آن الأوان لإنسان هذا البلد أن يعيش في دولة تسهر على استقراره وأمنه وتعالج الأزمات التي يعانيها على الصعيد المعيشي والحياتي.
وأخيراً، ونحن نطل على ذكرى ميلاد السيّد المسيح(ع)، نتقدم بأحر التهاني والتبريك للمسيحيّين والمسلمين وكلّ اللّبنانيّين بهذا اليوم الّذي نريده مناسبةً لتعزيز روح التّلاقي على القيم الّتي مثّلها السيّد المسيح(ع)؛ قيم الرحمة والمحبة وخدمة الإنسان كلّه، بعيداً من انتمائه الطائفي أو المذهبي والسياسي، والوقوف صفاً واحداً في مواجهة الظلم والجور والطّغيان، والعمل لتحقيق العدل الذي به يصان العالم.