18 كانون الأول 23 - 17:00
من النادر أن نجد قضية تظلُّ تفرض نفسها وتأبى الابتعاد عن الواجهة، وتستمر وتنمو في ذاكرة الأجيال كالقضية الفلسطينية، فهي تطلُّ برأسها كلما حاول أعداؤها التضبيب عليها أو إخفائها، أو جعلها هامشية في القضايا والأحداث، ولذلك ظلّت عصيّة على كل محاولات الطمس والتمييع على عكس كل المقولات السالفة من أن الكبار يموتون والصغار يتناسون.. وظل وهج هذه القضية يجتذب حتى المتباعدين فكرياً وعقائدياً، في أجندة اليسار وكذلك عند القوميين والمتدينين والإسلاميين، والأهم من ذلك كله استمرت كمقياس للعدل في مواجهة الظلم كلما ازداد الاحتلال قتلاً وسجناً وتشريداً وحصاراً لأهلها ومن يقف معهم.
ولعلّ السبب الرئيس في ذلك أنها تحفر في قلب الذاكرة وتطلع من جذور التاريخ، وتعيش في وجدان كل حرّ ونبيل.. كما أنها ارتبطت بالعنوان الذي لا يمكن للسياسات أن تُخضعه أو تدجّنه لأنه انطلق من جذور القدس الضاربة طويلاً في التاريخ المسيحي والإسلامي، ومن المسجد الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين حيث بارك الله هذه البقعة وما حولها وحيث يلتقي هذا المسجد بالمسجد الحرام في كل العناوين وأبرزها مسرى رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) ومعراجه حيث الآيات المباركات تتلى حركة حيوية على مرِّ الزمن...
ونحن هنا لا نريد لهذه القضية - التي تمتد وتتّسع إلى حيث يتواجد ويتحرك كل أحرار العالم - أن تُختصر بالعنوان الديني الإسلامي والمسيحي حتى وإن كانت مهد عيسى (عليه السلام) ومسرى النبي (صلى الله عليه وسلم ) ومعراجه.. ولكن نفحات الإسلام والمسيحية فيها كبيرة ومتجذّرة في التاريخ والجغرافيا بحيث لا يستطيع أحد أن يمحو هذه المعالم أو يطمس هذه الحقائق ما دام هناك من يحملها في روحه ونشاطه وحركيته، وحيث يأبى هذا التاريخ الذي ينضح إنسانيةً وقيماً وروحية أن يكون ضحية متهالكة بيد المحتل والغاصب...
حافزية العنوان الديني
ونحن عندما نؤكّد على حافزية العنوان الديني فلا نريد للعناوين الأخرى أن تسقط وتختفي، بل أن تأخذ حقّها في كل انتصار لمظلوم وكل صرخة حق ضد الظالم، وكل وقفة لحرّ أو شريف ضد السرقة الكبرى سواء أكانت سرقة على المستوى الديني أو السياسي، وسواء انطلقت بفعل السيطرة العسكرية المباشرة أو من خلال مشاريع التطبيع التي قد تحمل عنوان الإبراهيمية، ولكن النبي إبراهيم لا يمكن أن يعطي صك براءة للمحتل في أن يصادر الأرض والقرار أو أن تقبل شريعته الإجهاز على حقوق شعب وتراث أمة.
ربما كان لكثير من هذه العناوين أثرها في إبقاء جذوة هذه القضية متّقدة ومشتعلة، ولكن ثمة سبب كبير ومباشر يتصل بالشعب الفلسطيني نفسه، هذا الشعب الذي ظلّ يحفر ليل نهار وعلى مدى عشرات العقود ليزيل الأتربة عن وجه هذه القضية وظل يتفنن في مقارعة الاحتلال واختراع أساليب جديدة تناسب كل مرحلة وتنتصر على كل الضغوط.. حيث نجد أن للطفولة في فلسطين معنى آخر.. معنى يقترب دائماً من الوعي ومن حافزية التضحية.. من جيل المقلاع في مواجهة الدبابة إلى جيل المسدس.. إلى طلقات الوعي التي تحملها هذه الطفولة في شجاعتها واندفاعها، وربما لهذا السبب نجد أنها الآن هي الهدف الرئيس للعدو، وهي التي تدفع الأثمان الباهظة، حيث يتصور هذا العدو أن مشاريع التغيير والمواجهة والمقاومة التي تقف أمامه انطلقت من صميم هذه الطفولة وأن أقصر الطرق لمنع هذا الامتداد الذهني والعقلي في الفتوة والشباب والشيخوخة هو الإجهاز على هذه الطفولة حتى وإن كانت في المهد.. أطفال فلسطين هم مشاريع وعي ولذلك هم مشاريع شهادة.. ولذلك لم نجد وحشية تستهدف الطفولة - ربما في كل أحداث التاريخ ومساراته - كما نجدها في هذه الحرب التي تريد أن تقتلع هؤلاء وأن تبيدهم.. ولكننا رأينا الجثامين الناطقة بالحياة، كما رأينا الطفولة الناطقة بالصمود والتي تجري الآيات القرآنية على لسانها مجرى الأمل الذي لم تستطع آلة القتل الإسرائيلية أن تقتله في هذه النفوس الكبيرة التي تحتضنها أجساد الأطفال..
أما شباب فلسطين ونساؤها وشيبتها فهم الامتداد لهذا النبع الصافي الذي تغذّى على الألم ونما على المأساة وشرب حليب المعاناة ولم ينطق إلّا بالإيمان الواعي: حسبنا الله ونعم الوكيل، وعلى طريقة زينب بنت الإمام علي في واقعة كربلاء: «والله ما رأيت إلّا جميلاً».
سقوط ثوب الديمقراطية وحقوق الإنسان
لقد استطاعت هذه الحرب في غزة التي تسيل فيها الدماء أنهاراً، والتي يعمل العدو على أن يصنع في الضفة الغربية ما يصنعه هناك.. أن تُسقط هذا الثوب الذي كانت تتغنّى به الدول الغربية.. ثوب الديمقراطية وحقوق الإنسان، ومعه يسقط الأنموذج الغربي في الواقع العربي والإسلامي المتمثل بالكيان الصهيوني الذي كان يشبّهه بعض المسؤولين الصهاينة بأنه «فيلا في غابة» فإذا بالوحوش في قلب الفيلا، وإذا بالآخرين فرائس لها..
إن من أبرز ثمرات هذه الحرب هو كشف القناع عن هذه الديمقراطيات، وتعرية عناوينها إلى حد السقوط الأخلاقي التام لهذه الإدارات، ولهذه المنظومة التي ظلت ترفع بوجه الشعوب وصمة الإرهاب ولكنها تسالمت جميعاً على رفض التوصل لوقف إطلاق النار وعلى ذبح الأبرياء ذبحاً لا شبيه له في التاريخ.
كما أن من ثمرات صمود هذا الشعب هذه الوحدة الشعورية التي نعيشها في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، بعد أن سقطت العناوين المذهبية وتوحّدت المواقف، وتراجعت كل دعوات الفتن والانقسامات لتبرز الوحدة الإسلامية والرسالية والوطنية.
هكذا تعود فلسطين إلى الواجهة لتكون هي الحدث وهي القبلة السياسية، وهي مصنع البطولة ومحتوى الإنسانية الأبرز، وهي المظهر الذي يفيض طهارة ونقاءً على الجميع، والموقع الذي تُمتحن فيه الدول والشعوب والحكومات والأنظمة والأفراد...
أما العدو الذي ينتظر أن تُستنفر في وجهه الأسئلة الكبرى بصرف النظر عن المدة التي تستغرقها هذه الحرب، فهو سيظهر عارياً وعاجزاً من الناحية السياسية والإنسانية، ولكن المهم أن نعرف نحن أصحاب القضية والأرض.. نحن أهل الضحايا والشهداء كيف نستثمر في كل هذا العطاء الفلسطيني الذي يمثل مادة حيّة وغالية في مدى الأجيال القادمة.
جريدة اللواء 18 كانون الأول 2023