لم تكن الطّريق الصّهيونية لإقرار بدء عملية "درع شمالي" للقضاء على "أنفاق حزب الله الهجوميّة" سهلة كما عكسها التوافق العلني بين رئيس الحكومة الصهيونية بنيامين نتنياهو وقائد أركان الجيش الصهيوني غادي آيزنكوت.
وكما استغلَّ نتنياهو "درع شمالي" لإنقاذ حكومته من انفراط عقدها بعد استقالة وزير الأمن السابق أفيغدور ليبرمان من منصبه، ومطالبة وزير التعليم نفتالي بينيت بالمنصب، فقد فعل آيزنكوت الأمر ذاته تقريبًا، واستغلّ العملية لحسم صراعه مع ليبرمان الذي انتهى باستقالة الأخير من منصبه.
ونقلت صحيفة "هآرتس" في تقرير مطوّل، اليوم الإثنين، عن مسؤولين صهاينة شاركوا في المداولات التي سبقت إقرار عملية "درع شمالي" في السابع من تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، أنَّ نتنياهو وآيزنكوت لم يكونا حاسمين تجاه موعد إطلاق العمليّة، رغم حسمهما ضرورة إطلاقها.
وادّعى مسؤول سياسيّ صهيونيّ، بحسب الصّحيفة، أنَّ آيزنكوت مارَسَ خلال الفترة التي سبقت العمليّة ضغوطات هي الأكبر له منذ تقلّده منصبه قائدًا لأركان الجيش الصهيوني قبل أعوام، باتجاه البدء بهدم الأنفاق بشكل أسرع قدر الإمكان، وصولًا إلى مواجهة ليبرمان وبينيت، اللذين أصرّا على أنَّ الأولويّة هي لعملية عسكرية في غزة، لا على الحدود مع لبنان.
وللإصرار على موقفه، هوّل آيزنكوت من العمليّة المحتملة (حينها) بشكل كبير جدًا، إذ شبّهها تارةً بعملية "بربروسا" التي شنّتها ألمانيا ضدّ حليفها الاتحاد السوفياتي في العام 1941 أثناء الحرب العالميّة الثانيّة، من دون أيّة إشارات سابقة إلى إمكانيّة انشقاق التحالف النازي - السوفياتي.
وجاءت المداولات العسكريّة والسياسيّة الصهيونيّة حول عمليّة "درع شمالي" أثناء موجة الانتقادات الشعبية والسياسية الصهيونية الحادّة تجاه التعامل مع حركة حماس في قطاع غزّة، أبرزها من ليبرمان نفسه، الَّذي كانت علاقاته مع القيادة العسكرية سيّئة جدًا، "حتى إنَّ ذلك صعّب من وجود علاقات عمل صحيّة".
وليس الخلاف بين ليبرمان والقيادة العسكريّة جديدًا، أو يتعلّق بغزّة فقط، إنما له عدّة بوادر، بدءًا من محاكمة الجندي القاتل إليئور أزاريا، وإغلاق إذاعة الجيش الصهيوني، وإعادة جثامين الأسرى، حتى إنَّ ليبرمان اتهم القيادة العسكرية بأنها لا تعطي سياساته في الوزارة الدّعم لتطبيقها، إضافةً إلى الخلاف بين ليبرمان وآيزنكوت حول هُويّة رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية الصهيونية (أمان).
ووصلت كلّ هذه الخلافات إلى ذروتها في الثلاثين من آذار/ مارس الماضي، بعد انطلاق "مسيرات العودة" الأسبوعيّة في قطاع غزّة. وبلغ التباين بين موقف ليبرمان والقيادة العسكريّة مبلغًا لا يمكن التراجع عنه، بحسب الصحيفة، ولم يبقَ الخلاف سرًا في الغرف العسكريّة، إنما خرج إلى العلن مع إعلان ليبرمان وقف تزويد قطاع غزّة بالوقود حتى تتوقف "مسيرات العودة" ويتوقّف إطلاق الطائرات الحارقة من القطاع، بعد البدء بخطوات التهدئة، وهو ما رفضه القادة العسكريّون الذين أيَّدوا إعادة إدخال الوقود إلى غزّة، منعًا لانفجار الأزمة الإنسانيّة التي يمرّ بها القطاع، فما كان من ليبرمان إلا أن أغلق الهاتف بوجه القادة العسكريّين، مشبّهًا إياهم بناشطي حركة "السلام الآن".
وقال أحد الضباط الصهاينة الذين اطّلعوا على فحوى المداولات، إنّ ليبرمان كان يستشيط غضبًا عندما يذكر أحد العسكريين أمامه جملة "أزمة إنسانية في غزة"، حتى إنَّه منعهم من استخدامها.
وفي نقاش آخر للمجلس السياسيّ والأمنيّ الصهيونيّ المصغّر (الكابينيت)، مطلع تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل، وهي الجلسة التي صادق فيها الكابينيت على "درع شمالي"، طلب ليبرمان من قادة الجيش الصهيوني توجيه "ضربة قوّة" لغزّة. وحين سأله المشاركون عن قصده، أجاب: "ضربة جويّة تسبّب لهم الرعب، وتُفهمهم أنهم تجاوزوا الخطوط الحمراء"، وهو موقف مقارب لموقف الوزير بينيت، الذي قدّم "خطة" لعملية عسكريّة تتضمّن إخلاءً للسكان الصهاينة من منطقة غلاف غزّة، وتوجيه ضربات عسكرية جوية للقطاع، من دون أيّ اجتياح برّي.
وكان موقف القيادة العسكرية الصهيونية أنه من غير المسؤول الانجرار إلى حرب مع غزّة قبل عدّة أيام من عمليّة حسّاسة أمام "حزب الله"، وأدى موقف ليبرمان وبينيت إلى أن يفقد آيزنكوت هدوءه قائلًا: "من غير الممكن التحرك جويًا فقط وتوجيه ضربة قوية لحماس. إن كنتم تريدون إضعاف حماس، فهذا يعني اجتياحًا بريًا. علينا قول الأمور بشكل واضح، وفهم تأثير قرارات كهذه".
ووافق مع آيزنكوت حول ضرورة التركيز على الشمال، لا العمل على جبهتي غزّة ولبنان، رئيس جهاز الأمن العام (الشاباك) ناداف آرغمان، ورئيس مجلس الأمن القومي مئير بن شابات، ورئيس جهاز الموساد يوسي كوهين. أما نتنياهو، فقد دعم موقف القيادة العسكريّة، وترك ليبرمان وحيدًا في مواجهة الجميع تقريبًا.
أمّا نقطة انفجار ليبرمان، فكانت أثناء جلسة الكابينيت في 12 تشرين الثاني/ نوفمبر، مع إطلاق المقاومة الفلسطينية عشرات الصواريخ نحو بلدات صهيونية، وإقرار الحكومة الصهيونية التهدئة بعد وساطة مصريّة. وخلال الجلسة، عرض أحد الحاضرين لليبرمان تغريدة كتبها عضو الكنيست السابق عن حزبه، الصحافي شارون غال، في موقع "تويتر"، جاء فيها: "وزير الأمن الرامبو صامت... أنا أشعر بالخجل لأنني كنت عضو كنيست في حزبه الذي لا يفعل شيئًا غير الكلام". وهنا، وفق الحاضرين، فهم ليبرمان أنه سيدفع مستقبله السياسي ثمن التهدئة أمام حركة "حماس".
وفي ظلِّ هذه الأجواء، برز خلاف آخر داخل الكابينيت، وهو موعد انطلاق عمليّة "درع شمالي"، فلم يكن عند نتنياهو موعد محدد لبدء العمليّة، في حين أصرّ آيزنكوت على أن يكون التحرك فوريًا، لسببين: الأول من الناحية العملياتيّة، والثاني لمواجهة الانتقادات الشعبية الصهيونية بسبب الامتناع عن شنّ حرب في قطاع غزّة.
ومن أجل حسم القرار، أحضر آيزنكوت تقريرًا من قائد المنطقة الشماليّة في الجيش الصهيوني يوآل ستريك، حذّر فيه الأخير من "التأثير الكارثي" لتأخير انطلاق العمليّة العسكريّة ضد الأنفاق، وخصوصًا إن علم "حزب الله" أنّ الكيان الصيوني يتحضَّر لهدم الأنفاق، عندها سيخسر الجيش الصهيوني عامل المفاجأة، وعندما لم يحسم تقرير ستريك رأي القيادة السياسية الصهيونية، طالب آيزنكوت إدراج مقاطع من تقرير ستريك في محضر الجلسة.
ونقلت الصَّحيفة عن مصادر عسكريّة صهيونية شاركت في الجلسة أنّ نتنياهو لم يعجبه تصرّف آيزكوت بعرض تقرير ستريك أمام الكابينيت، ولا محاولته ذكر التقرير في المحضر، إلا أنَّ طلب آيزنكوت حسم إطلاق العملية الفوري، "لأنه، كما كل الحاضرين في الجلسة، يعرفون بشكل لا يقبل التأويل أنهم لا يستطيعون تحمل مسؤولية أي عملية تنطلق من لبنان، مع محضر للجلسة فيه تحذير من قائد الأركان وقائد الجبهة الشماليّة"، بحسب ما قال مصدر سياسي للصحيفة.