30 كانون الأول 22 - 16:00
قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 30]. صدق الله العظيم.
ها نحن نودِّع ونستقبل سنة جديدة ستضاف إلى سني عمرنا في رحلة الحياة الَّتي نعيشها، وقد جرت العادة أن تكون رأس السنة الميلاديّة مناسبة لإقامة السّهرات والحفلات واللّقاءات الّتي تجري في الأماكن العامَّة والبيوت، وقد لا يكون في ذلك أيّ مانع دينيّ ما دامت هذه اللّقاءات والحفلات والسّهرات تحافظ على الحدود والضَّوابط الشرعيَّة، بل قد يكون الإنسان بحاجة إلى مساحة فرح تعزّز لديه الأمل في كلّ هذا الجوّ القاتم الذي نعيشه على كلّ الصّعد.
توديعُ العام
لكن يبقى السؤال: ما هو الرابط بين كلّ الأجواء التي نشهدها في رأس السنة، والّتي تصل إلى حدّ أن يفقد الكثير من الناس توازنهم، وحتى وعيهم إلى مستوى هستيري، بين انتهاء سنة وقدوم سنة جديدة؟!
فمناسبة رأس السّنة، لو أردنا تحليلها، لرأينا أنها لا تنسجم مع كلّ هذا الجوّ الصاخب واللاهي، وحتى مع جوّ الفرح، والّذي يأخذ في الاعتبار الجانب الشّرعيّ، لأنها تعني في مضمونها خسارة الإنسان لسنة من عمره، فَقَدَ معها رصيداً من هذا العمر الَّذي منحه الله له، أمّا بالنّسبة إلى المؤمن، فيصبح معها أقرب إلى أن يقف بين يدي ربّه ليواجه مسؤوليّته.
هذه المسؤوليّة التي أشار إليها رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) عندما قال: «لا تَزُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَدَمَا عَبْدٍ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ: عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ جَسَدِهِ فِيمَا أَبْلاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ فِيهِ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ أَخَذَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ»، وكلّ هذا لا يدعو إلى الجوّ اللّاهي العابث أو إلى الفرح.
وإذا كان البعض قد يفلسف هذا الجوّ بأنّه يعود إلى الدخول في سنة جديدة، فهذا لا يدعو إلى كلّ ما نشاهده في رأس السنة، لأنّ الإنسان في هذه المناسبة يعيش قدراً من القلق، فهو لا يدري ما الَّذي تخبّئه له السنة القادمة، وهل ستكون سنة خير كما يحبّ، أو أنها ستحمل معها الآلام والمعاناة والمصاعب والمشقّات، الأمر الذي يدعونا إلى التخطيط لسنة قادمة، حتى تكون خالية من كلّ ما قد يخشى منه، وأن يتوجَّه الإنسان إلى ربِّه، حتى يقيه أحزانها وآلامها، وما قد يجري عليه فيها من شرور، وأن تكون خيراً من السنة الفائتة.
المراجعةُ المطلوبة
إنّنا انطلاقاً من هذا الوعي لحقيقة نهاية سنة وبداية سنة جديدة، ومن وحي أنّنا لا نريد أن نكون صدى للجوّ الّذي نعيشه في كيفيّة إحياء رأس السنة، والّذي تساهم في تعزيزه وسائل الإعلام والإعلان والشَّركات التجاريّة التي تريدها مناسبةً لتسويق منتجاتها، نريد لمناسبة رأس السّنة أن تكون محطّة من محطّات المراجعة المطلوبة من الإنسان دائماً، والّتي يحتاج إليها حتى يتأكَّد أنه قد أدَّى مسؤوليّاته وسيؤدّيها، وأنه لن يخضع في أيّ مرحلة من مراحل حياته لتسويلات الشيطان، ولا لنفسه الأمَّارة بالسّوء، أو للأجواء السيّئة التي تحيط بها، والتي تدعوه إلى الوقوع في مهاوي الانحراف والرّذيلة، وليتأكَّد أنّ خطواته توصله إلى رضوان الله وجنَّته، وهذه المراجعة هي الّتي حثّنا الله سبحانه عليها عندما قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا الله وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا الله إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر: 18].
فقد ورد في الحديث: «الْكَيِّسُ - يعني الذي يحسن تدبير أموره - مَنْ دَانَ نَفْسَهُ، وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا، ثُمَّ تَمَنَّى عَلَى الله».
وهذا ما أشارت إليه الأحاديث الشّريفة، فقد ورد في الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم ): «حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسَبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتجهّزوا للعرض الأكبر».
وقد بيَّنت الأحاديث كيفيَّة هذا الحساب، فقد ورد في الحديث عن أمير المؤمنين (ع): «جاهد نفسك وحاسبها محاسبة الشَّريك شريكه، وطالبها بحقوق الله مطالبة الخصم».
وفي حديث آخر عنه (ع)، أنّه كان في كلّ مساء يجلس مع نفسه ليقول لها: «يا نفس، وما الَّذي عملت فيه؛ أذكرت الله أم حمدتيه، أقضيت حقَّ أخٍ مؤمنٍ؟ أنفَّست عنه كربته؟ أحفظته في ظهر الغيب؟ أحفظتيه بعد الموت في مخلّفيه، أكففت عن غيبة أخٍ مؤمنٍ بفضل جاهك، أأعنْتِ مسلماً؟ ما الّذي صنعت فيه؟ فيذكر ما كان منه، فإن ذكر أنَّه جرى منه خير، حمد الله عزَّ وجلَّ وكبَّره على توفيقه، وإن ذكر معصيةً أو تقصيراً، استغفر الله وعزم على ترك معاودته».
استقبالُ العامِ بالصَّلاةِ
ومن هنا نحن مدعوّون في هذه اللَّيلة إلى أن نتفرَّغ فيها بعيداً من كلّ هذا الضّجيج الّذي حولنا، لنجلس مع أنفسنا جلسة حساب عمَّا مضى، وتخطيط لما بقي، ولنا في ذلك أسوة برسول الله (صلى الله عليه وسلم )، حيث ورد أنَّ رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) كان يقف في هذه اللّيلة ليصلّي ركعتين، ويقول كما جاء في الحديث: «ما عملت في هذه السَّنة من عمل نهيتني عنه ولم ترضه، ونسيتُه ولم تنسه، ودعوتني إلى التَّوبة بعد اجترائي عليك، اللّهمّ فإنّي أستغفرك منه فاغفر لي، وما عملت من عمل يقرّبني إليك فاقبله منّي، ولا تقطع رجائي منك يا كريم».
وعندما تبدأ السَّنة الجديدة، كان (صلى الله عليه وسلم ) يصلِّي أيضاً ركعتين، ثم يقول: «اللّهمَّ أنت الإله القديم، وهذه سنة جديدة، فأسألك فيها العصمة من الشَّيطان، والقوَّة على هذه النَّفس الأمَّارة بالسوء، والاشتغال بما يقرّبني إليك، يا كريم، يا ذا الجلال والإكرام.. الله لا إله إلا هو، عليه توكَّلت، وهو ربّ العرش العظيم، آمنا به، كلٌّ من عند ربّنا، وما يذكر إلّا أولو الألباب، ربَّنا لا تزغ قلوبنا وهب لنا من لدنك رحمةً إنَّك أنت الوهَّاب».
فرحُ المسؤوليّةِ
إنَّ من حقِّنا أن نفرح في بداية السنة ونحن ندعو إليه، ولكن فرحنا لا ينبغي أن يكون إلَّا بعد أن نضمن أننا قد طوينا صفحة الماضي على خير، وأننا سنكون أكثر إحساساً بالمسؤوليّة في مستقبل أيامنا، وهذا هو الفرح الحقيقيّ، فرح الواعين الّذين يعون حقيقة الفرح وعمقه، وهم الَّذين أشار الله سبحانه إليهم عندما قال: {قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58].
وهو الفرح الذي تحدّث عنه أمير المؤمنين (ع) لابن عمّه ابن عباس، عندما قال له: «فَلَا يَكُنْ أَفْضَلَ مَا نِلْتَ فِي نَفْسِكَ مِنْ دُنْيَاكَ بُلُوغُ لَذَّةٍ أَوْ شِفَاءُ غَيْظٍ، وَلَكِنْ إِطْفَاءُ بَاطِلٍ أَوْ إِحْيَاءُ حَقٍّ، وَلْيَكُنْ سُرُورُكَ بِمَا قَدَّمْتَ وَأَسَفُكَ عَلَى مَا خَلَّفْتَ».
فلا فرح في حياتنا وبعده النّار، وقد ورد في الحديث: «مَا خَيْرٌ بِخَيْرٍ بَعْدَهُ النَّارُ، وَمَا شَرٌّ بِشَرٍّ بَعْدَهُ الْجَنَّةُ».
إنَّ من أسوأ ما قد يحصل للإنسان، أن يبدأ سنةً هو أحوج ما يكون فيها إلى الله سبحانه الَّذي بيده أمر الحياة، وهو الممسك بكلِّ مفاصلها وكلِّ ما يجري فيها، أن يبدأها بمعصية الله، أو أن لا يذكر الله فيها ولا يتوجَّه فيها إليه، ليقيه من شرورها وآلامها وحزنها، وليعينه على القيام بمسؤوليّاتها.
لذلك، نسأل الله أن نعي موقفنا في هذا اليوم، وفي هذه السّنة، فرحين بطاعة الله ورضوانه، بعيدين من معصيته وما لا يرضيه.