هل حقا اكتشفت ناسا كونا آخر يسير الزمن فيه بالعكس؟
كان الخبر بالفعل مبالغا فيه، فقد بنى نفسه على نتائج أخيرة جاءت من (1) "أنيتا" (ANITA)، وهي تجربة ذكية تهدف لاستخدام قارة أنتارتيكا بالكامل كمعمل! حيث من المفترض أن تتفاعل النيوترينونات الكونية عالية الطاقة مع الغطاء الجليدي الضخم للقارة، ما يتسبّب في انعكاس نمط محدد من النبضات الراديوية التي يمكن أن تلتقطها الهوائيات المعلّقة في بالون من الهيليوم يُحلِّق على ارتفاع نحو 37 كيلومترا في سماء القارة المتجمدة.
النيوترينو هو جسيم دون ذري صغير جدا لدرجة أن تريليون جسيم منه سوف يمر عبر أحد أصابعك خلال ثانية، لكن هذا الجسيم ضعيف التفاعل بشكل يجعل "نيوترينو" واحدا فقط يمكن أن يتفاعل مع جسدك خلال عمرك كله، إنها جسيمات بلا شحنة ولا تحمل -تقريبا- أي كتلة، لهذا السبب كان الإمساك بالنيوترينو دائما أشبه بأن تُمسك بالأشباح، وتطلّب الأمر دائما حِيلا ذكية -مثل "أنيتا"- للإمساك بالنوع عالي الطاقي منها.
في العام 2018 بدأت التجربة "أنيتا" في تلقّي إشارات راديوية شاذة (2) عن المتوقع منها، بدت وكأنها حدثت بسبب جسيمات مرّت عبر الأرض إلى القارة الجنوبية ثم إلى أنيتا، وليست منعكسة من الغلاف الجليدي للقارة القطبية الجنوبية، فتح ذلك الباب لمجموعة من التأويلات التي تتضمّن القول إن ذلك فقط متعلّق بطبيعة الجليد نفسه في القارة القطبية الجنوبية، لكن البعض أشار إلى أن ذلك قد يكون دليلا على شيء آخر يقع في أبعد جوانب خيالاتنا.
في تلك النقطة تدخل إلى أرض الملعب فرضية تتصدّرها ورقة بحثية صدرت (3) في الوقت نفسه تقريبا، تقترح تلك الفرضية أن الكون الذي نعرفه أشبه ما يكون بصورة مرآة لكون آخر، وكلا الكونين بدأ من النقطة نفسها، وهي الانفجار العظيم.
لفهم الأمر دعنا نبدأ من النموذج الأكثر قبولا لعلم الكونيات حاليا (4) (يُسمى اختصارا نموذج "لامبدا-سي دي إم" (ΛCDM))، والذي يفترض أن كوننا بدأ من الانفجار العظيم، نحن نلاحظ ذلك حينما ننظر إلى الكون فنرى أنه يتوسّع بمعدلات متسارعة، بالتالي لو تخيّلنا أن الكون فيلم يُعرض الآن وأردنا إعادة المشاهد للخلف مدة نحو 13.8 مليار سنة فإن هذا التمدد سينعكس لنصل إلى نقطة واحدة يبدأ منها الكون كله.
لا نعرف بعد الكثير عن هذه النقطة، ولا يمكننا رصد أي شيء حدث خلالها أو خلال الأربعمئة سنة الأولى من تاريخ الكون، حيث كان مُعتما لا يُمرِّر أي ضوء، وما إن تكوّنت الذرات الكونية الأولى حتّى انطلق أول فوتونات الضوء، لكننا فقط نفترض وجودها بناء على الكثير من الدلائل الدامغة.
هنا يتساءل هذا النموذج الجديد: "لماذا لا نستمر في تدوير الفيلم للخلف حتّى بعد الانفجار العظيم؟"، بالطبع ليست تلك مجرد فكرة ظهرت بشكل مفاجئ في أدمغة بعض الفيزيائيين، ولكنها عادتهم أن يتبعوا المعادلات الرياضية إلى أي طريق تأخذهم إليه، والمعادلات عادة ما تبدأ من المشكلات التي تواجه فيزيائيي الكونيات.
إحدى تلك المشكلات هي أن "نموذج لامبدا-سي دي إم" يخرق في بعض حالاته ما يُسمى بـ "تماثل الشحنة والتكافؤ والزمن"(5) (CPT – Symmetry)، ولفهم الفكرة دعنا نتأمل كرة ملساء، حينما ننظر إليها من أي موضع، من اليمين أو اليسار أو الأعلى أو الأسفل مثلا، فإن شكلها لا يتغيّر، أما المكعب -على سبيل المثال- فلا يمكن لنا أن نراه بالشكل نفسه من كل الاتجاهات، في مرة ستُقابل حدوده، وفي مرة ستُقابل أحد الأوجه، وفي مرة ستُقابل أحد بروزاته.
هنا نقول إن المكعب "يكسر التماثل الدوراني"، أما الكرة فهي متماثلة دورانيا، في فيزياء الجسيمات هناك كذلك عدة أنواع من التماثل (لكن بالطبع مع اختلافات كبيرة، مثال الكرة فقط للتقريب)، ويفترض (6) غالبية الفيزيائيين أن هذا النوع، تماثل الشحنة والتكافؤ والزمن، من المفترض ألا ينكسر، في تلك النقطة يفترض هذا الجديد أنه لكي نحفظ التماثل لا بد أن نفترض وجود كون آخر غير كوننا يقع في خلفيته.
لكن هذا الفرض لا يتجنّب الانفجار العظيم، بل يواصل حلوله مباشرة من خلال الانفجار العظيم إلى ما حدث قبله، من تلك الوجهة فالانفجار هو فقط النقطة التي انعكس فيها توجُّه الكون. بمعنى آخر، في الجانب الآخر من الانفجار العظيم يوجد زمكان -نسيج زماني مكاني- مشابه لذلك الذي نعيش فيه لكنه عكسه في كل شيء.
فمثلا، الزمن في هذا الجانب الآخر سوف يظهر، بالنسبة لنا، كأنه يجري للخلف وليس للأمام، كذلك كل شيء في هذا الجانب الآخر سيبدو معكوسا كأنه صورة في المرآة، لكن لاحظ أنه يظهر كذلك بالنسبة لهذا فقط، أما سكان هذا الجانب الكوني الآخر -إن كانوا موجودين- فإنه لا شيء يبدو معكوسا، بل كل شيء طبيعي، لكنهم لو نظروا إلى جانبنا فسيرونه وكأنه صورة معكوسة منهم. بمعنى آخر، سوف يلتقي كلٌّ من الكونين عند لحظة الانفجار العظيم، فيتصوّر كلُّ من الجانبين أن الآخر حدث بعد ماضيه!
في تلك النقطة قد تسأل: وما علاقة تجربة أنيتا بكل هذا الكون المعكوس؟ والإجابة هي أن النموذج الجديد للكون المعكوس يفترض(7) ظهور نوع جديد من جسيمات النيوترينو لم يوجد من قبل في النموذج الفيزيائي لفيزياء الجسيمات الذي نعرفه حاليا، ويمكن أن تكون تلك الجسيمات هي ما قامت تجربة "أنيتا" برصدها.
يجب أن نُوضِّح أن المشكلة ليست في فرضية ارتباط نتائج تجارب أنيتا بالكون المعكوس، بل في الحديث عن أن نتائجها هي تأكيد أو حتّى إشارة إلى وجود هذا الكون المعكوس، بينما هي -في أقصاها- مجرد تخمين، وحتّى مع اكتشافنا لتلك الجسيمات يبقى تخمينا، لأنها يمكن أن تُشير أيضا إلى أشياء أخرى.
إلا أن فرضية وجود كون معاكس لكوننا الذي نعيش فيه قائمة بالفعل، بل وكان فريق بحثي من جامعة أوكسفورد(8) قد أشار قبل عدة أعوام إلى فرضية شبيهة، في دراسة نُشرت بدورية "Physics Letters B"، تقول إن الانفجار العظيم لم يكن، بالصورة التي نتخيلها، نقطة البداية لكلٍّ من الزمن والمكان، لكنه كان اللحظة التي تغيّر فيها توجُّه الفضاء.
مثل سابقه، هذا النموذج الجديد لا يتجنّب الانفجار العظيم، بل يواصل حلوله مباشرة من خلال الانفجار العظيم إلى ما حدث قبله، بالتالي لا يُقدِّم أي مبادئ جديدة، ولا يُقدِّم أي تعديلات على نظرية أينشتاين للنسبية العامة التي تشرح تطور الكون بدقة، ويبني نفسه فقط -مثل سابقه أيضا- على مشكلة يكون هو حلها، هذه المرة تُسمى بمشكلة الأفق(9) (Horizon Problem).
حيث نعرف أنه في وقت مبكر للغاية من تاريخ الكون كانت سرعة التمدد الكوني أكبر من سرعة الضوء، ما يعني أن هناك جسيمات أوّلية ظهرت بعد الانفجار العظيم مباشرة لكن لم تتسنَّ لها الفرصة لتلتقي ببعضها بعضا أبدا، لفهم ذلك تخيّل أن لدينا كوب ماء ساخن وكوب ماء بارد قمنا بإبعادهما عن بعضهما بعضا فور تكوُّنهما، هنا سيظل أحدهما باردا والآخر ساخنا لفترة، لكن حينما نتركهما بعض الوقت ملتصقين، ثم ننقلهما إلى اليمين واليسار، فإن كلًّا منهما سيكون بدرجة الحرارة نفسها تقريبا.
هنا تظهر مشكلة الأفق، حيث من المفترض للجسيمات التي انفصلت سريعا في بداية الكون أن تختلف في صفاتها عن بعضها بعضا، لكن أثر ذلك لا يظهر في الكون الذي نراه أمامنا، فهو متجانس، أجزاؤه تشبه بعضها بعضا في كل الاتجاهات، هنا يظهر السؤال الرئيسي: ما الذي جعل مناطق من الكون لم تتصل ببعضها بعضا أبدا متجانسة بهذا الشكل؟
في تلك النقطة يظهر طريقان للإجابة، الأول له علاقة بفيزياء ما بعد الانفجار العظيم، يتصور هذا الحل أن شيئا ما حدث في اللحظات الأولى من عُمْر الكون، وتسبّب في هذا الاتصال المستحيل، ربما كان الفضاء نفسه مختلفا عما نعهده الآن، وربما كانت سرعة الضوء أكبر، أما الطريق الثاني فيقول إن، كما يبدو، الانفجار العظيم لم يكن بداية الزمن أصلا، بل امتلكت تلك الجسيمات، بشكل ما، وقتا قبل الانفجار العظيم لتختلط ببعضها بعضا، ثم جاء الانفجار العظيم.
كل تلك الفرضيات لم تظهر من فراغ، بل هي حلول لمشكلات قائمة بالفعل في النماذج الحالية التي تشرح الكون، خذ مثلا تلك الورقة البحثية(10) التي أثارت الجدل في الوسط البحثي في العام 2017 حينما أشارت إلى إمكانية تصادم كون آخر بكوننا في مرحلة مبكرة جدا من تاريخه، اعتمدت فرضية تلك الورقة البحثية على منطقة في إشعاع الخلفية الميكروي لا يمكن للنماذج الحالية تفسيرها إلا مع فكرة مستعارة من فرضية "الأكوان الفقّاعة" التي جاءت نتيجة لفرضية التضخم الدائم(11) (Eternal Inflation).
لكن هذه الفرضيات عن الأكوان الأخرى تواجه مشكلة أساسية، وهي مقدرتنا على التأكد من صحتها تجريبيا، إن السؤال عن "هل هناك أكوان أخرى بالفعل؟" صعب الإجابة في وضعنا العلمي الحالي، وربما لا نتمكّن من إجابته أبدا، لكن مَن يدري؟ ربما نفعل. كل ما نحتاج إليه الآن هو مواصلة العمل لتطوير أدوات أكثر دقة ونماذج أكثر وضوحا وقبولا للتكذيب لكي نستطيع من خلالها -ربما يوما ما- من التأكد من تلك الفكرة.
إلى أن تحين تلك اللحظة لا يمكن أن نتعامل مع تلك النماذج كواقع على الأرض، نحن ما زلنا في أرض أقرب للخيال، لكنه خيال يستحق التأمل والعمل عليه، ربما يوما ما نجيب عن أسئلتنا الأكثر إلحاحا: ما الطاقة المظلمة؟ وما المادة المظلمة؟ ما الذي حدث لحظة الانفجار العظيم ذاتها؟ ما الزمن؟ ما الحياة؟ مَن نحن؟
أحدث الحلقات
يسألونك عن الإنسان والحياة | 12-8-2024
12 تشرين الأول 24
حركة الحياة الدنيا ونتائجها 9-11-1995| في دروب الصلاح
04 تشرين الأول 24
سباحة آمنة | سلامتك
28 آب 24
يسألونك عن الإنسان والحياة | 28-8-2024
28 آب 24
يسالونك عن الإنسان والحياة | 27-8-2024
27 آب 24
آلة الزمن | حتى العشرين
26 آب 24
الألعاب الأولمبية ومشاركة بعثة لبنان | STAD
26 آب 24
يسألونك عن الإنسان والحياة | 26-8-2024
26 آب 24
أربعين الإمام الحسين (ع) : الرسالة والثورة | في دروب الصلاح
24 آب 24
محكمة الآخرة | موعظة لسماحة الشيخ علي غلوم
23 آب 24
خطبتا وصلاة الجمعة لسماحة السيد علي فضل الله | 23-8-2024
23 آب 24
المفاوضات حول فلسطين : جولات في داخل المتاهة | فلسطين حرة
23 آب 24
ما هوي تقييمكم لشبكة برامج شهر رمضان المبارك 1444؟
03/07/2020 13:37:00
كان الخبر بالفعل مبالغا فيه، فقد بنى نفسه على نتائج أخيرة جاءت من (1) "أنيتا" (ANITA)، وهي تجربة ذكية تهدف لاستخدام قارة أنتارتيكا بالكامل كمعمل! حيث من المفترض أن تتفاعل النيوترينونات الكونية عالية الطاقة مع الغطاء الجليدي الضخم للقارة، ما يتسبّب في انعكاس نمط محدد من النبضات الراديوية التي يمكن أن تلتقطها الهوائيات المعلّقة في بالون من الهيليوم يُحلِّق على ارتفاع نحو 37 كيلومترا في سماء القارة المتجمدة.
النيوترينو هو جسيم دون ذري صغير جدا لدرجة أن تريليون جسيم منه سوف يمر عبر أحد أصابعك خلال ثانية، لكن هذا الجسيم ضعيف التفاعل بشكل يجعل "نيوترينو" واحدا فقط يمكن أن يتفاعل مع جسدك خلال عمرك كله، إنها جسيمات بلا شحنة ولا تحمل -تقريبا- أي كتلة، لهذا السبب كان الإمساك بالنيوترينو دائما أشبه بأن تُمسك بالأشباح، وتطلّب الأمر دائما حِيلا ذكية -مثل "أنيتا"- للإمساك بالنوع عالي الطاقي منها.
في العام 2018 بدأت التجربة "أنيتا" في تلقّي إشارات راديوية شاذة (2) عن المتوقع منها، بدت وكأنها حدثت بسبب جسيمات مرّت عبر الأرض إلى القارة الجنوبية ثم إلى أنيتا، وليست منعكسة من الغلاف الجليدي للقارة القطبية الجنوبية، فتح ذلك الباب لمجموعة من التأويلات التي تتضمّن القول إن ذلك فقط متعلّق بطبيعة الجليد نفسه في القارة القطبية الجنوبية، لكن البعض أشار إلى أن ذلك قد يكون دليلا على شيء آخر يقع في أبعد جوانب خيالاتنا.
في تلك النقطة تدخل إلى أرض الملعب فرضية تتصدّرها ورقة بحثية صدرت (3) في الوقت نفسه تقريبا، تقترح تلك الفرضية أن الكون الذي نعرفه أشبه ما يكون بصورة مرآة لكون آخر، وكلا الكونين بدأ من النقطة نفسها، وهي الانفجار العظيم.
لفهم الأمر دعنا نبدأ من النموذج الأكثر قبولا لعلم الكونيات حاليا (4) (يُسمى اختصارا نموذج "لامبدا-سي دي إم" (ΛCDM))، والذي يفترض أن كوننا بدأ من الانفجار العظيم، نحن نلاحظ ذلك حينما ننظر إلى الكون فنرى أنه يتوسّع بمعدلات متسارعة، بالتالي لو تخيّلنا أن الكون فيلم يُعرض الآن وأردنا إعادة المشاهد للخلف مدة نحو 13.8 مليار سنة فإن هذا التمدد سينعكس لنصل إلى نقطة واحدة يبدأ منها الكون كله.
لا نعرف بعد الكثير عن هذه النقطة، ولا يمكننا رصد أي شيء حدث خلالها أو خلال الأربعمئة سنة الأولى من تاريخ الكون، حيث كان مُعتما لا يُمرِّر أي ضوء، وما إن تكوّنت الذرات الكونية الأولى حتّى انطلق أول فوتونات الضوء، لكننا فقط نفترض وجودها بناء على الكثير من الدلائل الدامغة.
هنا يتساءل هذا النموذج الجديد: "لماذا لا نستمر في تدوير الفيلم للخلف حتّى بعد الانفجار العظيم؟"، بالطبع ليست تلك مجرد فكرة ظهرت بشكل مفاجئ في أدمغة بعض الفيزيائيين، ولكنها عادتهم أن يتبعوا المعادلات الرياضية إلى أي طريق تأخذهم إليه، والمعادلات عادة ما تبدأ من المشكلات التي تواجه فيزيائيي الكونيات.
إحدى تلك المشكلات هي أن "نموذج لامبدا-سي دي إم" يخرق في بعض حالاته ما يُسمى بـ "تماثل الشحنة والتكافؤ والزمن"(5) (CPT – Symmetry)، ولفهم الفكرة دعنا نتأمل كرة ملساء، حينما ننظر إليها من أي موضع، من اليمين أو اليسار أو الأعلى أو الأسفل مثلا، فإن شكلها لا يتغيّر، أما المكعب -على سبيل المثال- فلا يمكن لنا أن نراه بالشكل نفسه من كل الاتجاهات، في مرة ستُقابل حدوده، وفي مرة ستُقابل أحد الأوجه، وفي مرة ستُقابل أحد بروزاته.
هنا نقول إن المكعب "يكسر التماثل الدوراني"، أما الكرة فهي متماثلة دورانيا، في فيزياء الجسيمات هناك كذلك عدة أنواع من التماثل (لكن بالطبع مع اختلافات كبيرة، مثال الكرة فقط للتقريب)، ويفترض (6) غالبية الفيزيائيين أن هذا النوع، تماثل الشحنة والتكافؤ والزمن، من المفترض ألا ينكسر، في تلك النقطة يفترض هذا الجديد أنه لكي نحفظ التماثل لا بد أن نفترض وجود كون آخر غير كوننا يقع في خلفيته.
لكن هذا الفرض لا يتجنّب الانفجار العظيم، بل يواصل حلوله مباشرة من خلال الانفجار العظيم إلى ما حدث قبله، من تلك الوجهة فالانفجار هو فقط النقطة التي انعكس فيها توجُّه الكون. بمعنى آخر، في الجانب الآخر من الانفجار العظيم يوجد زمكان -نسيج زماني مكاني- مشابه لذلك الذي نعيش فيه لكنه عكسه في كل شيء.
فمثلا، الزمن في هذا الجانب الآخر سوف يظهر، بالنسبة لنا، كأنه يجري للخلف وليس للأمام، كذلك كل شيء في هذا الجانب الآخر سيبدو معكوسا كأنه صورة في المرآة، لكن لاحظ أنه يظهر كذلك بالنسبة لهذا فقط، أما سكان هذا الجانب الكوني الآخر -إن كانوا موجودين- فإنه لا شيء يبدو معكوسا، بل كل شيء طبيعي، لكنهم لو نظروا إلى جانبنا فسيرونه وكأنه صورة معكوسة منهم. بمعنى آخر، سوف يلتقي كلٌّ من الكونين عند لحظة الانفجار العظيم، فيتصوّر كلُّ من الجانبين أن الآخر حدث بعد ماضيه!
في تلك النقطة قد تسأل: وما علاقة تجربة أنيتا بكل هذا الكون المعكوس؟ والإجابة هي أن النموذج الجديد للكون المعكوس يفترض(7) ظهور نوع جديد من جسيمات النيوترينو لم يوجد من قبل في النموذج الفيزيائي لفيزياء الجسيمات الذي نعرفه حاليا، ويمكن أن تكون تلك الجسيمات هي ما قامت تجربة "أنيتا" برصدها.
يجب أن نُوضِّح أن المشكلة ليست في فرضية ارتباط نتائج تجارب أنيتا بالكون المعكوس، بل في الحديث عن أن نتائجها هي تأكيد أو حتّى إشارة إلى وجود هذا الكون المعكوس، بينما هي -في أقصاها- مجرد تخمين، وحتّى مع اكتشافنا لتلك الجسيمات يبقى تخمينا، لأنها يمكن أن تُشير أيضا إلى أشياء أخرى.
إلا أن فرضية وجود كون معاكس لكوننا الذي نعيش فيه قائمة بالفعل، بل وكان فريق بحثي من جامعة أوكسفورد(8) قد أشار قبل عدة أعوام إلى فرضية شبيهة، في دراسة نُشرت بدورية "Physics Letters B"، تقول إن الانفجار العظيم لم يكن، بالصورة التي نتخيلها، نقطة البداية لكلٍّ من الزمن والمكان، لكنه كان اللحظة التي تغيّر فيها توجُّه الفضاء.
مثل سابقه، هذا النموذج الجديد لا يتجنّب الانفجار العظيم، بل يواصل حلوله مباشرة من خلال الانفجار العظيم إلى ما حدث قبله، بالتالي لا يُقدِّم أي مبادئ جديدة، ولا يُقدِّم أي تعديلات على نظرية أينشتاين للنسبية العامة التي تشرح تطور الكون بدقة، ويبني نفسه فقط -مثل سابقه أيضا- على مشكلة يكون هو حلها، هذه المرة تُسمى بمشكلة الأفق(9) (Horizon Problem).
حيث نعرف أنه في وقت مبكر للغاية من تاريخ الكون كانت سرعة التمدد الكوني أكبر من سرعة الضوء، ما يعني أن هناك جسيمات أوّلية ظهرت بعد الانفجار العظيم مباشرة لكن لم تتسنَّ لها الفرصة لتلتقي ببعضها بعضا أبدا، لفهم ذلك تخيّل أن لدينا كوب ماء ساخن وكوب ماء بارد قمنا بإبعادهما عن بعضهما بعضا فور تكوُّنهما، هنا سيظل أحدهما باردا والآخر ساخنا لفترة، لكن حينما نتركهما بعض الوقت ملتصقين، ثم ننقلهما إلى اليمين واليسار، فإن كلًّا منهما سيكون بدرجة الحرارة نفسها تقريبا.
هنا تظهر مشكلة الأفق، حيث من المفترض للجسيمات التي انفصلت سريعا في بداية الكون أن تختلف في صفاتها عن بعضها بعضا، لكن أثر ذلك لا يظهر في الكون الذي نراه أمامنا، فهو متجانس، أجزاؤه تشبه بعضها بعضا في كل الاتجاهات، هنا يظهر السؤال الرئيسي: ما الذي جعل مناطق من الكون لم تتصل ببعضها بعضا أبدا متجانسة بهذا الشكل؟
في تلك النقطة يظهر طريقان للإجابة، الأول له علاقة بفيزياء ما بعد الانفجار العظيم، يتصور هذا الحل أن شيئا ما حدث في اللحظات الأولى من عُمْر الكون، وتسبّب في هذا الاتصال المستحيل، ربما كان الفضاء نفسه مختلفا عما نعهده الآن، وربما كانت سرعة الضوء أكبر، أما الطريق الثاني فيقول إن، كما يبدو، الانفجار العظيم لم يكن بداية الزمن أصلا، بل امتلكت تلك الجسيمات، بشكل ما، وقتا قبل الانفجار العظيم لتختلط ببعضها بعضا، ثم جاء الانفجار العظيم.
كل تلك الفرضيات لم تظهر من فراغ، بل هي حلول لمشكلات قائمة بالفعل في النماذج الحالية التي تشرح الكون، خذ مثلا تلك الورقة البحثية(10) التي أثارت الجدل في الوسط البحثي في العام 2017 حينما أشارت إلى إمكانية تصادم كون آخر بكوننا في مرحلة مبكرة جدا من تاريخه، اعتمدت فرضية تلك الورقة البحثية على منطقة في إشعاع الخلفية الميكروي لا يمكن للنماذج الحالية تفسيرها إلا مع فكرة مستعارة من فرضية "الأكوان الفقّاعة" التي جاءت نتيجة لفرضية التضخم الدائم(11) (Eternal Inflation).
لكن هذه الفرضيات عن الأكوان الأخرى تواجه مشكلة أساسية، وهي مقدرتنا على التأكد من صحتها تجريبيا، إن السؤال عن "هل هناك أكوان أخرى بالفعل؟" صعب الإجابة في وضعنا العلمي الحالي، وربما لا نتمكّن من إجابته أبدا، لكن مَن يدري؟ ربما نفعل. كل ما نحتاج إليه الآن هو مواصلة العمل لتطوير أدوات أكثر دقة ونماذج أكثر وضوحا وقبولا للتكذيب لكي نستطيع من خلالها -ربما يوما ما- من التأكد من تلك الفكرة.
إلى أن تحين تلك اللحظة لا يمكن أن نتعامل مع تلك النماذج كواقع على الأرض، نحن ما زلنا في أرض أقرب للخيال، لكنه خيال يستحق التأمل والعمل عليه، ربما يوما ما نجيب عن أسئلتنا الأكثر إلحاحا: ما الطاقة المظلمة؟ وما المادة المظلمة؟ ما الذي حدث لحظة الانفجار العظيم ذاتها؟ ما الزمن؟ ما الحياة؟ مَن نحن؟
تكنولوجيا ودراسات,كواكب, زمن, أوقات, ناسا, وقت, مركبة فضائية, دراسات, أبحاث, فلك, ثقوب سوداء
AlimanTv
|