أصدر وزير الأمن الصّهيونيّ أثناء الانتفاضة الأولى، يتسحاق رابين، أمراً عسكرياً مشهوراً للجنود الصهاينة بـ"تكسير العظام" للفلسطينيين. كان هذا الأمر العسكري يشكّل "روح القائد"، ويعني التعامل بشدة بالغة مع الفلسطينيين، وليس تكسير عظام اليد التي ألقت الحجارة على جنود الاحتلال فقط، وإنما إطلاق النار المكثف عليهم وقتل قسم منهم. و"روح القائد" هذه كانت وراء وحدة "العقرب" التي أقامها الاحتلال خلال تلك الانتفاضة.
وكان أفراد سريّة "العقرب" من المجنّدين الجدد، وغالبيتهم تجنَّدوا لسلاح المدفعية، لكن الاحتلال أخذهم من هناك، ونشرهم في الضفة الغربيّة، بحسب فيلم وثائقي بثه التلفزيون الصهيوني الرسمي "كان"، الأسبوع الماضي. وكانت مهمات الجنود في هذه السرية "اعتقال المطلوبين، منع التظاهرات، وإعادة الهدوء" إلى المدن والقرى ومخيمات اللاجئين في الضفة.
بعد الانتفاضة الأولى، في النصف الأول من تسعينيات القرن الماضي، تنكَّر "الجيش ووزارة الأمن الإسرائيليان لهذه السّرية"، وزعما أنه لم تكن هناك سرية باسم "العقرب". وهذا صحيح من الناحية الرسمية، لأنَّ "الجيش لم يفعل سوى نشر جنودها في الضفة، دون إعطائها أي صفة رسمية، أو اسم، كما لم يكلّف الجيش نفسه بتدريب جنودها". وبحسب الفيلم، فإن "الجيش زجَّ الجنود في مناطق الضفة المشتعلة غضباً، وأنه بغياب قيادة منظَّمة، قرر الجنود بأنفسهم كيف سيعملون ميدانياً".
واعترف الجنود في الفيلم الوثائقي بممارساتهم بحقّ الفلسطينيين. ورغم أنهم امتنعوا عن كشف الجانب الأخطر منها بشكل واضح، إلا أنها ترقى لاعترافات بجرائم حرب من دون شكّ. وتأتي هذه الاعترافات "بعدما توجَّه جندي في سرية "العقرب" إلى وزارة الأمن طالباً الاعتراف به بأنه معوَّق ومصاب بصدمة حرب، إلا أنه بعد ثلاث سنوات تلقّى إجابة من وزارة الأمن تقول إنه لا توجد وحدة كهذه في الجيش الإسرائيلي، وأنه يختلق رواية كاذبة، وعليه أن يوفر إثباتات على وجود وحدة كهذه".
قال أحد جنود سرية "العقرب"، الذين تحدثوا في الفيلم الوثائقي: "هذه الوحدة أخرجت الجنود من سياقهم. فقد أخذوا جنوداً من سلاح المدفعية، وحولوهم إلى جنود مشاة/ حرس حدود. وهم استخدمونا كقوة متخيلة. أنت تنفّذ مهامهم مع قدرات متخيّلة. تعيَّن علينا أن نظهر قوة ردع".
وتحدَّث جندي آخر عن المهامّ التي أوكلت للسريّة: "توجد مشاكل وعليكم حلها. وكنا نحلها. وهذا يعني أنه إذا لم تكن هناك قوانين، فماذا تتوقع أن يحدث؟ كانت هناك حالات وضعنا فيها فلسطينيين على الجيب العسكري، كدرعٍ واقٍ. كنا نطلق النار على نوافذ البيوت من دون سبب. لقد جعلونا عديمي الضمير وغير إنسانيين".
ويخشى الكثير من "الجنود المسرّحين من هذه السّرية المشاركة في لقاء يجمع جنودها، لأنهم يتخوفون من كشف هويتهم". ووصف أحد الجنود فترة تأسيس الوحدة: "قالوا لنا ستذهبون إلى سرية "العقرب"، وأرادوا تأهيلنا بسرعة كبيرة، رغم أننا لم نكن جاهزين للخدمة. وقد ألقوا بهذه المجموعة إلى هناك" في الضفة الغربية.
وقال جندي آخر: "معظم فترة خدمتنا كانت مطاردة الفلسطينيين الذين ألقوا حجارة. وكنا نوقف سيارة بشكل عشوائي. نقوم بعملية تفتيش وأي شيء آخر نريده. وكنا ندخل إلى بيت ونفتشه. كما ندمّر محتويات البيت ونخرج لننتقل إلى بيت آخر. كنا ثلاثة جنود فقط الذين ندخل إلى البيت، وكان جميع سكانه يهربون منا. لقد كانت قوة ردعنا هائلة للغاية".
وأضاف: "أوَّل شيء لفت انتباهي هو أنَّ الرجال يخافون منا، والأطفال يهربون، والنساء يختبئن. وكان هذا الشعور ملموساً جداً. وكانت لدي القدرة على أن أوقف سيارات بعيني. تعيَّن عليّ فقط أن أرفع رأسي لتتوقَّف سيارة مارة".
وتحدث ضابط عن سلوك جنود سرية "العقرب": "عندما يأتي الجندي ولا يعرف نوع العمل الذي ننفذه، فإنه يهاب من الوضع. وبعد أسبوعين أو ثلاثة، ترى أنه أصبح لدى الجنود ثقة بالنفس. وبعد شهرين، تلمس لديهم علامات أولى لفائض ثقة بالنفس. وبعد أربعة أشهر، ترى أن هؤلاء جنود بحاجة دائماً إلى إعادتهم إلى الطريق المستقيم، كي لا يرتكبوا أعمالاً طائشة، لأنَّ الإحباط يتعاظم لديهم".
ووصف أحد الجنود اقتحام السرية لقرية فلسطينية بالقول: "كانت هناك قرية قريبة من مقر السرية. وكنا نتدرّب على هذه القرية. أذكر أنه ألقوا علينا ثلاجة من طابق ثانٍ، وأطلق الضابط النار إلى أعلى، فسقطت مسنّة على غطاء محرك الجيب".
وأضاف: "غالباً، كان المقر عبارة عن مبنى سيطرنا عليه، وسكنا فيه. كان هذا الأمر مربكاً، بمعنى إنه إذا لم تكن هناك قوانين وتجلب جنوداً ولا تشرح لهم معنى العمل الشرطي، فماذا سيفعلون؟".
وتؤكّد اعترافات هؤلاء الجنود تعاملهم التعسفي مع المواطنين الفلسطينيين. قال أحد الجنود إنه في إحدى المرات تم توقيف مجموعة من الفلسطينيين، وكسر حنك أحد المعتقلين، الذي بدا وجهه مشوهاً. وأضاف: "جاء جندي إلى المكان الذي يقف فيه المعتقلون، ووجَّه ضربة قوية جداً إلى حنك ذلك المعتقل. سألته: لماذا فعل ذلك، فأجاب أنه اعتقد أن المعتقل يسخر منه، فضربه بقوَّة".
وأضاف الجندي نفسه: "كانت هناك حالات طلب فيها الشاباك منا أن نحضر مطلوبين مفكّكين بشكل بسيط (أي من دون الاعتداء عليهم بشكل شديد) كي يتمكَّنوا من مواصلة استجوابهم، لأنه كنا نُحضر لهم مطلوبين ينبغي نقلهم إلى المستشفى فوراً بكل بساطة".
ولم تكن لدى سرية "العقرب" تعليمات بشأن إطلاق النار. قال أحد الجنود: "تعليمات إطلاق النار كانت فضفاضة للغاية. لم يشرح أحد لنا ماذا يتعيَّن علينا فعله في وضع كهذا أو ذاك. كانت هذه التعليمات مكتوبة على الورق، لكننا لم نطبّقها. التعليمات قالت إنه إذا كانت حياتنا معرضة للخطر، فعلينا أن نقتل. وهذا كان بشكل رسمي. وبشكل غير رسمي أطلقنا النار في جميع الأحوال. وكنا مطالبين بإطلاق النار على أي أحد يلقي حجارة. وإذا لم تطلق النار كنت تتعرَّض للسؤال: لماذا لم تطلق النار؟".
وفي مرحلة معيّنة، كان مهندس المتفجرات، يحيى عياش، المطلوب رقم واحد للاحتلال. وقال أحد الجنود إن "عدم القبض على يحيى عياش كان محبطاً جداً، وتم التعبير عن هذا الإحباط بالتنفيس عن الغضب. وكانت اليد على الزناد بين جنود السرية حرة أكثر من الوحدات الأخرى".
وأضاف آخر: "شاؤول موفاز (الذي أصبح رئيساً لأركان الجيش لاحقاً) كان القائد العسكري للضفة. جاء إلينا في إحدى الليالي. وفيما كنا نشرح له على خريطة، وإذ برصاصتين تصيب الجيب. أوقفنا موفاز في صف، وكنا تسعة جنود، وأمرنا بإطلاق النار، فأطلقنا النار في الظلام باتجاه مصدر إطلاق الرصاصتين. وكانت هناك حرية بالغة للضغط على الزناد. وكانت أحداث كثيرة كهذه. وكنا نعتقد أن هذا حسن في حينها".
وأردف قائلاً: "كنا ننفّس عن غضبنا. وكان المواطنون الذين لم يفعلوا شيئاً يتعرضون للأذى. كنا نطلق النار من دون سبب داخل سيارة وعلى نوافذ البيوت والسخانات الشمسية. وحتى عندما لم تكن حياتنا في خطر، كنا نطلق النار. لقد حولونا إلى نوع من الآلهة؛ نقرر من يبقى على قيد الحياة ومن يموت".
وروى جندي عن مطاردة قوة من "العقرب" لشبان ألقوا حجارة: "اعتقدنا أنَّ الشبان دخلوا بيتاً معيناً، فألقينا 4 قنابل غاز مسيل للدموع إلى داخل البيت. بعدها سمعنا صراخاً، بما في ذلك صراخ أطفال، ثم ساد هدوء، وخرج الوالد يحمل أحد الأطفال وصرخ قائلاً: قتلتم أطفالي. ولم نعرف إذا كان هذا صحيحاً، لكننا لم ندخل إلى البيت كي نعرف ماذا جرى على الأقل".
يشعر من يشاهد الفيلم الوثائقي بأنَّ الجنود الذي تحدثوا فيه يخفون شيئاً. وفي أحد المقاطع، توقف جندي عن الحديث، وقال ملاحظة: "الرقابة العسكرية لن تسمح بذلك". والانطباع هو أنهم يخفون جرائم أكثر من التي اعترفوا بها خلال الفيلم. فخلال الانتفاضة الأولى، ارتكب الاحتلال جرائم كثيرة جداً، رغم أن هذه لم تكن انتفاضة مسلحة، بينما كان الحجر هو السلاح الأساسي فيها. وقال أحد الجنود في سرية "العقرب" إنه مع عدد من الجنود في السرية حوكموا بتهمة "إطلاق نار زائد"، وكانت العقوبة عدم الخروج من القاعدة العسكرية لثلاثة أسابيع.
وقد أخذ جنود "العقرب" عدوانيتهم معهم إلى حياتهم المدنية. قال أحد الجنود: "عندما تسرَّحت من الجيش وخرجت إلى الحياة المدنية، كنت أفعل أي شيء بعدوانية. وكان المحيطون بي يقولون لي إنني لست الرجل نفسه الذي كانوا يعرفونه قبل تجنّدي في الجيش".