بإسمه تعالى
ألقى العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، وجاء في خطبتيه:
لماذا لا نحتفي بالسّنة الهجريّة؟!
قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}. صدق الله العليّ العظيم.
نلتقي غداً، وفي أوَّل يوم من أيّام شهر محرَّم الحرام، ببداية سنة هجريّة جديدة، هي الألف والأربعمائة والواحد والأربعون للهجرة، وبذلك يكون مساء هذا اليوم هو رأس السنة الهجريَّة الجديدة.
لا مبرّر لعدم الاحتفاء!
وهنا يطرح السؤال: لماذا لا نرى الاهتمام برأس السنة الهجريَّة أسوةً بما نراه في رأس السنة الميلاديَّة، فلا نرى في شوارعنا مظاهر الزّينة وأجواء الفرح، ولا نشهد الموائد وتبادل التهاني والتبريكات، فنرى هذه اللّيلة تمرّ على المسلمين الذين هم معنيّون بها مرور الكرام، لا يشعر بها أحد منهم، ومن الطبيعي أن ينعكس ذلك على حضور السنة الهجرية وعلى موقعها عندهم، فلا نراهم يذكرونها في تواريخهم ومناسباتهم وبيوعهم وزواجهم ومماتهم ومعاملاتهم وغير ذلك، فهم يستحضرون في كلّ ذلك التقويم الميلادي أو التقاويم الأخرى دون التقويم الهجريّ؟
قد يبرِّر البعض أنَّ السبب في ذلك يعود إلى أنَّ رأس السنة الهجرية يتزامن وبشكل دائم، ومنذ استشهاد الإمام الحسين (ع) وأصحابه وأهل بيته، مع موسم عاشوراء الّذي بطبيعته يحمل معه أجواء الحزن، وهو لا يتناسب مع أجواء الفرح التي تصاحب الاحتفال برأس السنة.
ولكنّنا لا نرى ذلك مبرِّراً لعدم استحضار رأس السنة الهجريّة وإحيائها، فإحياء رأس السنة، سواء كانت هجريّة أو ميلاديّة، لا يكون بأجواء الفرح واللّهو، إذ لا نرى أيّ رابط بينهما، بل على العكس، نرى رأس السنة مدعاةً للحزن، لأنّه يشير إلى فقدان سنة من عمر الإنسان، ومعها يصبح أقرب إلى لقاء ربِّه، وإلى الوقوف بين يديه، حيث يحاسب الإنسان على عمره كيف أفناه، وماذا جنى منه. وإذا كان البعض يفرح بقدوم سنة جديدة عليه، فهو لا يدري ماذا ستخبِّئ له الأيّام فيها، ولذلك كنّا نضع علامات استفهام على الأجواء التي تصاحب رأس السنة الميلاديَّة وما يحصل فيها، والذي يصل إلى حدّ الخروج عن التّوازن وإلى حدود هستيرية.
إذاً، نحن مدعوّون، وانطلاقاً من إيماننا، إلى الاحتفاء برأس السنة الهجريّة، والإحياء الذي نطلبه هو إحياء رساليّ، نريد منه استلهام كلّ المعاني التي تشير إليها هذه المناسبة، وهذا ما نرى أنّه يتمثّل في ثلاثة عناوين:
التّعريف بالتّاريخ الهجريّ
العنوان الأوّل: التعريف بأهمية السنة الهجرية، وتعزيز حضورها في مجتمعاتنا ولدى أجيالنا ومساجدنا وفي مدارسنا وعبر وسائل الإعلام المتوفرة، ومواقع التواصل والاحتفالات والنّدوات واللّقاءات التي نعقدها، لأن في ذلك تعزيزاً لهويتنا الإسلاميّة، ولعدم الذوبان في الهويات الأخرى، ولتعزيز الارتباط بحركة التاريخ الإسلامي. فالسنة الهجريّة تختزن في داخلها، من هجرة النبيّ وإلى الآن، الكثير من محطات التاريخ الغنيّة التي لا بدّ من استلهامها واستحضارها وأخذ الدروس والعبر منها، لتوظيفها في واقعنا،والاستناد إليها لاستنهاض أمّتنا في كلّ الميادين التي خاضها المسلمون طوال تاريخهم.
إننا بحاجة إلى أن نخرج واقعنا من الأميّة والجهل بالسنة الهجريّة، فنحن - مع الأسف - لا نجد لهذا التاريخ حضوراً في واقعنا، والكثير من المسلمين إن سألتهم، فإنهم يجهلون في أيّ سنة هجريّة نحن، أو في أيّ شهر هجريّ، فضلاً عن أسماء هذه الأشهر، ونحن في هذا، لا نتنكّر للتاريخ الميلادي الذي له موقع عندنا لارتباطه بميلاد السيد المسيح، أو لأيّ تاريخ آخر أصبح أمراً واقعاً... ما ندعو إليه، هو أن نقرن التّاريخ الميلادي أو أيّ تاريخ آخر بالهجري...
محطّة لتصويب المسار
العنوان الثاني: أن يكون رأس السنة واحداً من محطّات المراجعة وتصويب المسار على ضوء المسؤوليّات والقيم الرّساليّة التي جسّدها رسول الله (ص) وأهل بيته (ع) في مسيرتهم وكلماتهم ومواقفهم، ليتأكّد الإنسان عندها أنّه قد أدّى واجباته تجاه الله ونفسه والنّاس الذين يعنى بأمورهم، وأنّه جاهز ومستعدّ لأداء هذه المسؤوليّات في قادم أيّامه، وأنّه يمتلك السلاح الكافي لمواجهة شياطين الجنّ والإنس الّذين يترصّدونه، وأنّ نفسه الأمّارة بالسوء لن تأخذ به إلى حيث لا يرضى الله.
وهذا ما كان يدعو إليه رسول الله (ص) عندما يحلّ رأس السنة، فقد كان (ص) يصلّي ركعتين، ثم يتوجّه إلى الله تعالى ليقول: "اَللَّـهُمَّ ما عَمِلْتُ في هذِهِ السَّنَةِ مِنْ عَمَل نَهَيْتَني عَنْهُ وَلَمْ تَرْضَهُ، وَنَسيتَهُ وَلَمْ تَنْسَهُ، وَدَعَوْتَني اِلَى التَّوْبَةِ بَعْدَ اجْتِرائي عَلَيْكَ. اَللّـهُمَّ فَإنّي أسْتَغْفِرُكَ مِنْهُ فَاغْفِر لي، وَما عَمِلْتُ مِنْ عَمَل يُقَرِّبُني اِلَيْكَ فَاقْبَلْهُ مِنّي، وَلا تَقْطَعْ رَجائي مِنْكَ يا كَريم...".
ومع أوّل يوم من أيّام محرّم، كان رسول الله يصلّي ركعتين ثم يقول: "اللّهم أنت الإله القديم، وهذه سنة جديدة، فأسألك فيها العصمة من الشيطان، والقوّة على هذه النفس الأمّارة بالسّوء، والاشتغال بما يقرّبني إليك، يا كريم، يا ذا الجلال والإكرام"، إلى آخر الدعاء الذي يمكن الرجوع إليه في كتب الأدعية، ونحن أحوج ما نكون إلى هذه المراجعة، فلنجعل من رأس السنة الهجريّة فرصةً للحساب.
استحضار مرحلة الهجرة
العنوان الثالث: أن تكون مناسبة لتذكّر مرحلة أساسيّة من مراحل التاريخ الإسلامي، والذي اختير ليكون عنواناً للسنة الإسلاميّة، وهو الهجرة، فقد اختيرت الهجرة دون غيرها، لأنها شكّلت نقلة نوعيّة في المسيرة الإسلاميّة بقيادة رسول الله (ص)، حيث انتقل معها المسلمون من العيش تحت ضغط قريش وسياساتها الجائرة، إلى فضاء الحريّة في الدعوة إلى الله، فقد حصلت الهجرة بعدما صعَّدت قريش من ضغوطها على رسول الله والمسلمين، وهي التي لم تدع وسيلة من الوسائل إلا واستعملتها في مواجهة دعوة رسول الله، من تشويه صورته والإساءة إليه، ومارست شتّى أنواع التعذيب والحصار على أصحابه، وعندما لم يتحقق هدفها من ذلك، قرّرت اغتيال رسول الله (ص) وهو نائم على فراشه، وقد أعدّت لذلك أربعين فارساً من شتّى القبائل، فإذا قتل رسول الله، فإنّ دمه يضيع بين القبائل، ولا تستطيع قبيلة بني هاشم الأخذ بثأره، لأنها لا تستطيع مقاتلة كلّ القبائل.
وقد تجلّت في هذه الهجرة أسمى معاني التضحية التي عبّر عنها عليّ (ع)، عندما دعاه رسول الله (ص) أن يبيت على فراشه، حتى لا تكتشف قريش خروجه فتلاحقه.
يومها، جاء (ص) إلى عليّ (ع)، ولم يتردّد في ذلك رغم خطورة هذا الأمر وتبعاته، واكتفى بأن قال لرسول الله: "أوتسلم يا رسول الله؟"، فقال نعم. قال: "اذهب راشداً مهديّاً، فأنا لا أبالي أوقعت على الموت أم وقع الموت عليّ".
عندها، نزلت الآية لتشير إلى موقع عليّ (ع): {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ}.
وبتخطيط دقيق من رسول الله، وبتأييد من الله، استطاع أن يتمّ هجرته إلى المدينة مع أصحابه من دون أن تتمكّن قريش من ملاحقتهم.
وفي المدينة، استقبله أهلها بالأهازيج والورود والأناشيد، لتبدأ مرحلة جديدة كانت مليئة بالبناء، فقد بنى دعائم المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية، وبالجهاد والتضحيات من المسلمين المهاجرين من مكّة والأنصار من أهل المدينة، وقد توّج الله نهاية هذه المرحلة بالنّصر المؤزَّر في فتح مكّة، وعودتها إلى حضن التّوحيد. وفي ذلك نزلت السورة: {إِذَا جَاء نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً}.
لقد أشارت الهجرة بوضوح إلى مدى التضحيات التي بذلها رسول الله (ص) والمسلمون من أجل أن يصل الإسلام إلينا، وحتى صرنا نعيش في رحاب نعمه وبركاته. فالإسلام لم يصل إلينا مفروشاً بالورد، بل هو نتاج كلّ هذه الجهود والتضحيات.
مسؤوليّتنا في السّنة الجديدة
إننا في ذكرى السنة الهجرية الجديدة، نستذكر تلك التضحيات والمعاناة، ونتطلّع إلى مسؤوليّتنا في أن نحفظ هذا الدّين، وأن نوصله نقيّاً صافياً إلى الأجيال القادمة، وأن نكون على استعداد عندما تدعونا الظروف، لأن نترك أهلنا ووطننا وبلادنا من أجل الله وفي سبيله.
إننا أحوج ما نكون، ونحن في هذه الظروف، إلى استلهام موقف رسول الله (ص)، حين لاحقه المشركون، ووصلوا إلى فم الغار، يومها خاف صاحبه، وظنّ أنه أطبق عليهما وسيقبض عليهما: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.
إنَّ وعينا لهذا الموقف سيدعونا إلى أن لا نشعر بالوهن ولا بالخوف، رغم كلِّ التحدّيات التي تواجهنا، مادام الله معنا، وإذا كان الآخرون يخطِّطون ويمكرون، إلا أنَّنا على ثقة بأنَّ الله معنا، الذي يرى ويعلم حقيقة ما نعانيه {وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}، ونقول ما قاله المسلمون بعد معركة أحد: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الخطبة الثّانية
عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بما أوصى به الإمام علي (ع) واليه مالك الأشتر عندما ولاه مصر، فقال له: "وأكثر مدارسة العلماء، ومناقشة الحكماء، في تثبيت ما صَلح عليه أمر بلادك، وإقامة ما استقام به النّاس قبلك، واعلم أنّ الرعيّة طبقات لا يصلح بعضها إلا ببعض، ولا غنى ببعضها عن بعض، فمنها جنود الله، ومنها كتّاب العامَّة والخاصَّة (العاملون بالشّأن العام والمستشارون)، ومنها قضاة العدل، ومنها عمّال الإنصاف والرّفق، ومنها أهل الجزية والخراج من أهل الذمّة ومسلمة النّاس، ومنها التجار وأهل الصناعات، ومنها الطبقة السفلى من ذوي الحاجة والمسكنة، وكلّ قد سمّى الله [له] سهمه، ووضع على حدّه وفريضته في كتابه أو سنّة نبيّه (صلى الله عليه وآله) عهداً منه عندنا محفوظاً".
لقد أراد الإمام عليّ (ع) بذلك أن يؤكّد أهميّة عودة الحاكم إلى العلماء والحكماء، ليستفيد من علمهم وحكمتهم، فلا يتفرَّد برأيه، وأن يوجّه الحاكم إلى الاهتمام بالجيش، حصن الوطن، والقضاة، وأهل التجارة والصناعة، فبهم يقوى البلد، ويحفظ في أمنه واقتصاده، والنظر دائماً إلى الفقراء والمساكين، بأن يكونوا بعينه وتحت رعايته، فلهم حقّ عليه، وفي ذلك حفظهم من أن يكونوا طمعاً لمستغلّي حاجات الناس ومتطلّباتهم. وعند العمل بذلك، سيبقى الوطن قادراً على مواجهة التحديات وتحمّل الظّروف الصّعبة.
وحدة الموقف تضعف العدوّ
والبداية من لبنان، الَّذي لا يزال يعيش في هذه الأيام تحت وقع تداعيات العدوان الإسرائيلي الأخير في الضاحية الجنوبية، والذي بات واضحاً أنه تصعيد إسرائيلي غير مسبوق، يريد العدوّ من خلاله العودة إلى ما كان عليه سابقاً من العبث بأمن هذا البلد واستقراره، وامتلاك حريّة التحرّك في أن يقصف ويضرب ساعة يشاء، وفي أيّ مكان، وحيث تقتضي مصالحه، بحيث يعمل على تعديل المعادلة الراهنة القائمة على توازن الردع المتبادل مع لبنان، وإرساء معادلة جديدة تقوم على استباحته متى أراد، ودفعه إلى الانصياع لمطالبه التي لا حدود لها، وهو الّذي يضغط عليه في أكثر من مسألةٍ، بإصراره على الاحتفاظ بأراضٍ لبنانيّة محتلّة، أو بتمسّكه بنهب ثرواته البحريّة وغيرها.
ونحن في ذلك، نرى أهميّة المواقف الرسميّة والسياسيّة الّتي صدرت عن رئيس الجمهوريّة ورئيس المجلس النيابيّ ورئيس الحكومة ومجلس الدّفاع الأعلى، والأوساط السياسيّة والحزبيّة والشعبيّة والدينيّة، والَّتي أكَّدت وحدة الموقف اللّبنانيّ، وحقّ لبنان في الردّ على هذا الانتهاك الصّارخ لسيادته واستقراره. وهنا نحيّي في هذا المقام، مبادرة الجيش اللبناني في التصدي بقوّة لمُسيَّرات العدوّ، والتي تتلاقى مع استعداد المقاومة لحفظ أمن لبنان واستقراره، لأنَّ العدوّ سيواصل عدوانه بشتّى الوسائل إذا لم تردعه القوّة المناسبة والمدروسة.
لقد كان لبنان بغنى عن أن يتحمّل العبء الكبير في مواجهة العدوان، لو كانت المؤسّسات الدوليّة والدول الكبرى تقوم بواجبها في ردعه، وعلى الأقلّ استنكاره ورفضه، فكيف، ونحن نعرف أنّ بعض هذه الدول تبرّر للعدوّ عدوانه بحجّة الدّفاع عن النفس! وهنا نسأل عن دور الجامعة العربيّة، وخصوصاً أنّ عضواً فيها تعرَّض لهذا الاعتداء الّذي كان من المفترض أن يستدعي اجتماعاً سريعاً لإيصال رسالة استنكار وموقف واضح في مواجهة العدوّ.
وفي المقابل، فإنّنا كنا نأمل عدم صدور أصوات قد يستفيد منها العدوّ في هذا العدوان أو أيّ عدوان قد يقدم عليه. ولا بدَّ هنا من أن نقول لكل الخائفين من ردود فعله: إنَّ من يتصدّى لهذا العدوّ ليس متهوّراً، ولا يضع أمن الناس على الهامش أو يعبث بهم. إنَّ المرحلة تقتضي أقصى درجات الوحدة، ونحن أحوج ما نكون فيها إلى استجماع كلّ عناصر القوّة التي نملكها، لا أن نفرِّط فيها، ولا سيّما تلك التي أثبتت جدواها في التاريخ القريب، وحرَّرت الأرض.
إننا، وفي ظلّ هذا العدوان المستمرّ، ليس على لبنان وحده، بل على سوريا والعراق أيضاً، وفي ظلّ الحرب المستمرّة على غزّة وحصار العدوّ المتواصل لأهلها، ندعو إلى موقف عربيّ وإسلاميّ موحّد في مواجهته، لأنَّ الرهان على أن توقفه الإدارة الأميركيّة أو الدول الكبرى عند حدّه هو رهان على سراب، ويدخل في عداد الأوهام الّتي اعتاد النّاس سماعها من دون أن تغيّر من واقع العدوان شيئاً.
لقد جرَّبنا سابقاً أن نقلّع أشواكنا بأظافر الآخرين فلم نفلح. ولذلك، سيبقى قرارنا أن نقلّعها بأظافرنا.
ونبقى في لبنان، لنشير إلى أهميَّة بذل الجهود لمواجهة الوضع الاقتصاديّ الخطير الّذي يزداد خطورة بعد العدوان الإسرائيليّ، وبعد القرارات التي خفضت تصنيف لبنان.
تنويه بمبادرة الرئيس
وهنا، ننوِّه بالمبادرة التي انطلقت من رئيس الجمهورية، ومن رئيس المجلس النيابي، بالدّعوة إلى عقد اجتماعات تساهم في إيجاد علاج سريع وفعّال للمشاكل الاقتصادية، حرصاً على قوّة هذا البلد واستقراره.
ونحن نأمل من كلّ القوى السياسيّة أن تتناسى في هذا الوقت خلافاتها، لنشارك معاً في إيجاد حلول للواقع الاقتصادي من خلال معالجة أسبابه، ولكن بعيداً من زيادة أعباء إضافيّة على الناس، في ظلّ الحديث المتزايد عن زيادة رفع أسعار البنزين وغيره، مما لا طاقة للمواطن على حملها.
ذكرى تغييب الصّدر
وفي هذه الأيّام، تطلّ علينا ذكرى تغييب الإمام موسى الصدر ورفيقيه، وهو الّذي كان داعية وحدة وحوار على مختلف المستويات، وكان صدراً رحباً لكلّ اللّبنانيّين، ومنفتحاً على كل القضايا العربيّة والإسلاميّة، فحمل مسؤوليَة وقف الحرب الأهليّة اللّبنانيّة، وعمل لترسيخ الوحدة الداخليّة، ودافع عنها في كلّ المحافل، وواجه الحرمان، وعمل على تحصين لبنان في مواجهة العدوّ الصهيوني، وكان داعماً بارزاً لقضيّة الشعب الفلسطيني.
لقد شكَّل قرار تغييب هذا الإمام مع رفيقيه عدواناً على كلّ الأحرار وأصحاب القضايا المحقّة. ولذلك، فإنّنا في الوقت الَّذي ندعو إلى إماطة اللّثام عن هذه القضيّة بكلّ تفاصيلها، نؤكّد أنَّ على جميع اللّبنانيّين أن يعملوا بكلّ الأساليب لكشف ملابسات ما حدث، ليعرف النّاس أبعاد هذه الجريمة بكل خيوطها وخطوطها وأهدافها الخطيرة، لأنَّ الإمام الصّدر لم يكن إماماً لطائفة من اللّبنانيّين، بل كان إماماً بحجم وطن وأمّة، ومن مسؤوليّة الوطن أن يتوحّد على هذه القضيّة ويقوم بواجبه تجاهها.
الاستعداد لموسم عاشوراء
وأخيراً، نستعدّ في هذه الأيام لاستقبال موسم عاشوراء؛ هذه الذّكرى الّتي تمثّل امتداداً لهجرة رسول الله (ص) وتثبيتاً لإنجازها، وهي الّتي عملت على تجسيد الإسلام بكلّ عناوين التضحية والوفاء، وأعادت إلى الدين صورته الحقيقيّة، وحفظت الإسلام من كل عناوين التشويش والتشويه.
إنّنا نريد لهذه الذكرى وهذه النهضة التي كانت منطلقاً للإصلاح في أمّة الإسلام، أن تكون كما أرادها الحسين (ع)، منطلقاً للوحدة، وميداناً للتآخي، وعنواناً للتقارب في الوسط الإسلامي، وميداناً للدفاع عن الحرية والعزة والكرامة، وفي مواجهة الطغيان والفساد والانحراف، فالحسين كان إماماً للمسلمين، لكنّه كان يعمل بحجم الإنسانيّة كلّها.