ألقى سماحة العلامة السيد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبته السياسية:
عباد الله أوصيكم وأوصي نفسي بما أوصى به الإمام الجواد(ع)، هذا الإمام الذي مرت علينا ذكرى وفاته في آخر يوم من أيام شهر ذي القعدة الحرام، عندما قال: "ما أنعم اللهُ على عبدٍ نعمةً، فعلم أنها من الله إلا كتب الله جل اسمه له شكرها قبل أن يحمده عليها، ولا أذنب ذنباً فعلم أن الله مطلع عليه إن شاء عذبه وإن شاء غفر له إلا غفر له وإن لم يستغفره".
لقد أراد الإمام من ذلك أن يشير إلى أن الإنسان إذا كان واعياً لمدى نعم الله عليه وأنه ما به من نعمة فمنه، يكتبه الله من الشاكرين لنعمته قبل أن يتلفظ بها، وهو قد يغفر له خطيئته إن علم أن الله يراقبه وإن لم يستغفر منها.
إن أقل الواجب أمام هذه الرحمة والمغفرة، أن نرسخ حضور الله في عقولنا وأنفسنا لنكون أكثر شكراً وعياً ومسؤولية وقدرة على مواجهة التحديات.
والبداية من غزة التي يستمر العدو بارتكاب مجازره فيها، والتي لن يكون آخرها ما ارتكبه في مخيم النصيرات وفي مبنى تابع للأمم المتحدة، وبالتدمير لكل مظاهر الحياة فيها والذي يستكمله في الضفة الغربية من دون أن يبدي أي رغبة بالتجاوب مع الجهود التي تبذل حتى من الدول الداعمة له والتي تريد له أن يخرج من مأزقه الذي وقع فيه وحرصاً منها عليه بعدما لم يستطع أن يحقق أي إنجاز كان يهدف إليه من معركته هذه سوى التدمير للمباني والبنى التحتية، ومن دون أن يبالي بكل الأصوات التي ارتفعت ولا تزال ترتفع في العالم لتدعوه إلى إيقاف تماديه بالقتل الوحشي.
وإذا كان من تجاوب أبداه هذا الكيان، والذي عبر عنه الرئيس الأميركي، لإجراء مفاوضات مع المقاومة الفلسطينية، فقد أصبح واضحاً أنه يريد من ذلك استعادة أسراه الذين بات أهاليهم يقضون مضاجعه عبر تظاهراتهم اليومية وبعدما فشل في استردادهم طوال حربه التي تجاوزت الثمانية أشهر، ما يجعل هذه المفاوضات تبقى في إطار المراوحة، حيث لا يمكن للمفاوض الفلسطيني أن يقبل بإراحة هذا الكيان باستعادة أسراه من دون أن يكون للشعب الفلسطيني الحق بالشعور بالأمان في أرضه وعدم استمرار المعاناة التي تتفاقم في كل يوم.
ومن المؤسف أن نجد من يطلب من الجانب الفلسطيني أن يقدم التنازل ويعمل على الضغط عليه من دون أن يدعو إلى ذلك الكيان الصهيوني وأن يمارس الضغط الجدي عليه.
في هذا الوقت، يستمر الشعب الفلسطيني بالخيار الذي أخذه على عاتقه بالثبات على مواقفه وعدم السماح لهذا العدو بتحقيق أهدافه في السيطرة على قطاع غزة تمهيداً لتهجيره منها وذلك بالصبر على الجراح وتحمل الآلام وبمقاومته، ما جعل هذا الكيان يقف عاجزاً عن تحقيق أي من أهدافه وأدى إلى ارتفاع الأصوات من داخل كيانه بضرورة الخروج من رمال غزة المتحركة والتي وصلت إلى داخل مجلس حربه.
إننا أمام كل ذلك، نحيي هذا الثبات والصمود والبطولة التي نشهدها في الميدان، وبالحكمة التي يبديها المفاوض الفلسطيني التي لا تفرط في الثوابت، وكلنا ثقة أن هذه الإرادة والاستعداد للتضحية والحكمة ستمكن هذا الشعب من تحقيق آماله بالحرية وترغم العدو على التراجع عن شروطه، ويكفي دليلاً على ذلك استمرار التفاعل مع قضيته وتوسع دائرة التأييد له والمطالبة بحقوقه المشروعة وانكشاف الصورة المشوهة لهذا الكيان التي كان حريصاً على طمسها، بعدما حقق نجاحاً في أن يصور نفسه بصورة المعتدى عليه لا المعتدي.
ونبقى في فلسطين لنشير إلى مسيرة الأعلام التي شهدناها في القدس من قبل الكيان الصهيوني والتي تحصل كل عام من قبل هذا الكيان احتفاءً باستكمال احتلاله للقدس والذي حصل عام 1967، والذي واكبه هذا الكيان كما في السنوات السابقة بإعلان قادته اعتبار القدس عاصمة أبدية لهذا الكيان وعدم استعدادهم لأي تنازل عنها في أي مفاوضات قد تجري.
ومع الأسف، جرى ذلك من دون أن يؤدي إلى أي موقف عربي وإسلامي رسمي أو شعبي شاجب لما يجري، ما نراه يشجع هذا الكيان على الاستمرار في سياسة تهويد القدس وتدنيس المسجد الأقصى واستباحة المقدسات الإسلامية والمسيحية.
ونصل إلى لبنان الذي تستمر فيه المقاومة بالدور الذي أخذته على عاتقها بمساندة الشعب الفلسطيني وعدم تركه وحيداً في معركته مع هذا الكيان الصهيوني، ولأجل ذلك تبذل التضحيات الجسام. وفي الوقت نفسه تواجه اعتداءات هذا العدو التي تطاول القرى الآمنة في المصالح التجارية والصناعية وتروع المواطنين، وهي باتت تقدم الإنجازات التي تجعل العدو يفكر ملياً قبل أن يقدم على أي اعتداء وستجعل العدو يعي مجدداً أن لبنان ليس لقمة سائغة له.
في هذا الوقت يستمر قادة العدو بتهديداته للبنان والتي أصبح من الواضح أنها تأتي من باب التهويل وبث الروح المعنوية لدى مستوطنيه وتحقيق مكاسب يريدها من وراء ذلك، بعدما أثبت هذا العدو عجزه في الميدان وتكشفت قدرات المقاومة، لكن هذا لا يدعونا إلى أن ننام على حرير هذا الكيان الذي قد يقدم على أية مغامرة مستفيداً من الدعم الذي يحظى به، ما يدعو اللبنانيين إلى توحيد صفوفهم في مواجهة هذا العدو الذي لا يهدد طائفة أو مذهباً أو منطقة بل هو يهدد كل اللبنانيين.
قد يختلف اللبنانيون على العديد من القضايا، لكنهم لا ينبغي أن يختلفوا على سيادة هذا البلد وأن يخرج من هذه المعركة قوياً لأن أي ضعف، لا سمح الله، يجعل هذا البلد في مرمى هذا الكيان وتحت سطوته.
ومن هنا، فإننا نعيد الدعوة إلى إزالة كل العراقيل التي ما زالت تقف أمام الاستحقاق الرئاسي والتي بات واضحاً أنها لا تُزال إلا بالحوار الذي هو السبيل الوحيد لبحث الخلافات وتكريس المشتركات ما يسهم بالتخفيف من الهواجس الموجودة بين اللبنانيين، والاقتراب من التوافق على حل للاستحقاق الرئاسي، الذي تفرض المصلحة الوطنية عدم التأخير في إنجازه.
إن من المؤسف أن نشهد تراخياً على هذا الصعيد، فيما تزداد معاناة اللبنانيين على الصعيد الاقتصادي والمعيشي بعد الغلاء الفاحش الذي ارتفع إلى عشرات الأضعاف كما أشارت إليه الإحصاءات، في الوقت الذي لا تزال الرواتب بعيدة جداً عن المطلوب...
وأخيراً، لا بد من الدعاء للحجاج الذين بدأوا يفدون من كل فج عميق، بالتوفيق لهم لأداء مناسكهم وقبول طوافهم وسعيهم وأن يعودوا إلى بلادهم سالمين غانمين برحمة من الله ورضوانه.