"بدي ولادي بدي ولادي" تغالب الدموع الشابة المقدسية لمى غوشة وهي تكرر هاتين الكلمتين. فيرتفع صوتها أعلى من سقف محكمة احتلال، ويشق قلوب كل من وصله ممزوجاً ببكائها.
تريد الصحافية وطالبة الماجستير في جامعة بيرزيت الاطمئنان إلى حال طفليها كرمل (5 سنوات) وقيس (3 سنوات)، فهي تركتهما مصدومَيْن حين اعتقلها الاحتلال أمام أعينهم الصغيرة في الرابع من الشهر الحالي. داهم جنود مدججون بالكره والسلاح منزل العائلة في حي الشيخ جراح، وعاثوا فيه فساداً وصادروا حاسوب لمى وهاتفها، قبل أن يقتادوها، أمام طفليها وعائلتها، إلى تحقيق يقولون إنه لم ينته بعد.
ماطل الاحتلال في عقد جلسة محاكمة لمى، وفي خطوة غير معتادة، لم يصدر القاضي حكمه، بالرغم من تقديم الادعاء لائحة اتهام ضد الباحثة في المتحف الفلسطيني في بيرزيت. خرجت الصبية المسكونة بهموم الأسرى حتى صارت منهم، تنادي ولديها باسميهما لتقول لهما إنها تحبهما في جواب جامع مانع لكل سؤال منهما عنها.
الاحتلال مدّد توقيف لمى، للمرة الخامسة، حتى الأحد المقبل؛ لاستكمال المداولات، بعد تعرض لمى لتحقيق قاس بأساليب مهينة بينها التفتيش العاري والاستجواب لعشر ساعات متواصلة، بتهم التحريض ودعم منظمات إرهابية وتأييدها، وذلك لنشرها صورة الشهيد إبراهيم النابلسي. وغوشة المهتمة بالذات بقضايا الأسرى، والتي تقدّم برنامجاً مكرّساً للتعريف بهم وبصمودهم وبطولاتهم بعنوان "بروفايل أسير"، معزولة في سجن "هشارون" في ظروف قاسية، وفق ما قالت قبل أن يذهب بها سجّانوها بعيداً عن أهلها والصحافيين الذين توافدوا إلى محكمة صلح القدس، منذ الصباح؛ رفضاً لاعتقال زميلتهم.
ناصر عودة، محامي لمى، يقول للميادين نت إن الادعاء قدّم لائحة فيها أحد عشر بنداً حول التحريض والتماهي مع منظمات إرهابية، بحسب تعريف القانون الإسرائيلي. وأوضح أن أقصى عقوبة لتهمة التحريض تصل إلى خمس سنوات سجن، ويفترض أن يصدر القاضي حكمه يوم الأحد المقبل، فإما أن يجد في لمى تهديداً لأمن "إسرائيل" ما يستوجب سجنها، أو يتم إطلاق سراحها بشروط، ربما تكون مشددة.
ويضيف عودة أن لمى التي تنفي الاتهامات الموجّهة إليها بشكل قاطع، دائمة السؤال عن ولديها، وأنهما ما يشغل بالها أغلب الوقت. كيف لا، وهي الأم التي مرت أوقات حملت فيها مسؤولياتها ومسؤولية الأب الذي كان أسيراً بدوره؟
كرمل وقيس: وين ماما؟
اهتمام لمى المهني والشخصي بقضية الأسرى ليس مصادفة، فهي ابنة القدس ومعاناة أهلها اليومية في مواجهة الاحتلال، إضافة إلى كونها زوجة أسير هو ياسين صبيح. ولمى وضعت طفلتها الأولى "كرمل" خلال واحد من اعتقالات ياسين المتكررة لدى الاحتلال. واليوم، إذ يتبادل الزوجان دوري الأسر والانتظار، تتكرر أسئلة طفليهما: وين ماما؟
أصدقاء العائلة يحاولون إشغال الصغيرين، وملء وقتيهما باللعب مع أطفال في الفئة العمرية نفسها، لكن من يعوض غياب الأم؟ أم تنثر ابتسامات أطفالها على صفحاتها في وسائل التواصل الاجتماعي، التي أصبحت من أدوات اتهامها. ولمى أم تكرس وقتاً نوعياً برغم كل التزاماتها المهنية والدراسية، لتتابع أنشطة الصغيرين، وتشارك لحظاتهما المميزة مع متابعي صفحاتها.
تقول صديقة العائلة، أمل عبيدي، إن جميع من يستطيع المساعدة يحاول التخفيف عن الطفلين، لكن حياة العائلة انقلبت رأساً على عقب. وقبيل توجّه عبيدي إلى إحدى فعاليات التضامن مع لمى التي كانت موجودة دائماً في كل استحقاق في القدس، تخبر الميادين نت أن كرمل ترفض فكرة سجن أمها، بل تكرر على مسامع كل من تعرف أن " ماما في المحكمة". ووفق عبيدي، حياة العائلة كلها انقلبت، فياسين يحاول القيام بدور الأم والأب معاً، وأهل لمى يحاولون فهم الوضع المستجد على ابنتهما وعائلتها الصغيرة. أما القدس فمستمرة في تقديم أبنائها وبناتها أسرى وأسيرات دفاعاً عن حقهم في العيش بكرامة في مدينتهم المحتلة.
وما تمر فيه لمى اليوم مر فيه كثيرون من أهل المدينة. ولعلّ فيما تختبره لمى اليوم تكثيفاً لأكثر من وجه من وجوه معاناة المقدسيين، فهي واحدة من أربع عشرة أسيرة مقدسية منهن أمهات، كالأسيرة الجريحة إسراء جعابيص وأماني حشيم. وهي صحافية من سبعة عشر صحافياً يحتجزهم الاحتلال في سجونه، بينهم صبيتان إضافة إليها، هما: بشرى الطويل وطالبة الإعلام دينا جرادات.
استهداف الصحافة؟
قد يقول قائل إن الصحافة الفلسطينية مستهدفة، فاعتقال لمى يأتي في عام صعب على الصحافيين الفلسطينيين، فقبل أشهر اغتيلت الصحافيتان شيرين أبو عاقلة من القدس في مخيم جنين، وغفران وراسنة في مخيم العروب قرب الخليل. وتتصاعد مذاك الهجمة الهمجية ضد الصحافيين، ولا سيما مع تكثف الوقفات الاحتجاجية للصحافيين ضد عمليتي الاغتيال وتداعياتهما. ولكن الحديث عن استهداف لتخصص دون آخر في فلسطين المحتلة غير دقيق عملياً. فالاحتلال يستهدف الكل الفلسطيني، صحافياً أو طالباً أو مريضاً أو طفلاً.
هو احتلال، ووجوده مناقض لوجود كل فلسطيني وأي فلسطيني، وبالتالي كل فلسطيني مستهدف، سواء في القدس أو الضفة الغربية أو حتى الأرض المحتلة عام ثمانية وأربعين. لكن قوة الصحافة وقدرتها على إعلاء صوت الناس تهز المحتل؛ لأنها تكشف سوء جرائمه، فيضطر إلى إسكات الصحافيين بكل وحشية، سواء بالقتل أو الأسر والإبعاد عن طفلين صغيرين. أمر قد يساوي صعوبة الموت بالنسبة إلى الأمهات، ولمى الفلسطينية أولاً وأخيراً، في أهم أدوارها أم!
ملاك خالد
المصدر: الميادين نت