يغادرنا شهر رمضان بعد أيّام قليلة، ومن الطبيعيّ أن تطبع الحسرة قلوب المؤمنين العارفين بقيمة هذا الشَّهر وأهميّته، فبالرّغم من أنهم عانوا فيه الجوع والعطش والحرمان، إلّا أنّهم يشعرون بأنهم بغيابه سيفقدون نعمةً كبيرةً، وأيّ نعمة أكبر مما أُودع في هذا الشَّهر من بركات، حيث الأنفاس فيه تسابيح، والنّوم عبادة، والعمل مقبول، والدّعاء مستجاب، والأجر مضاعف أضعافاً كثيرةً، وهو شهر أودع الله فيه ليلة هي عنده خير من ألف شهر، شهر كانوا يتحسَّسون فيه الفرح عند إفطاره، والأنس في لياليه وأسحاره، وما وعدوا بالحصول عليه يوم لقاء ربهم. شهر لا يشعر فيه الفقير بفقره، ولا اليتيم بيتمه، ولا ذو الحاجة بأنّه يعاني وحده...
وإلى هذا أشار الإمام زين العابدين في دعائه في وداع شهر رمضان، عندما قال: «فنحن مودِّعوه وداع من عزَّ فراقه علينا وغمّنا وأوحشنا انصرافه عنّا، ولزمنا له الذّمام المحفوظ، والحرمة المرعيّة، والحقّ المقضيّ».
ويبقى السّؤال الّذي ينبغي أن يطرحه كلٌّ منّا على نفسه وهو على أعتاب مغادرة هذا الشَّهر: هل عندما يغادرنا الشَّهر فإننا بدورنا نغادره، ليعود كلٌّ منا إلى سابق عهده، وليكون هذا الشَّهر شهراً فريداً من السّنة ينتهي بانتهائه؟ الأمر ينبغي أن لا يكون كذلك، وليست هذه هي الصّورة التي أريدت لهذا الشَّهر، فالله سبحانه لم يرد لشهر رمضان أن يكون شهراً في السّنة، بل أراده أن يكون سيِّداً للشّهور وقائدها وعمدتها، لذلك هو يدعونا أوّلاً إلى أن نتأهّل في هذا الشّهر لبقيّة الأشهر، وأن تتعمّق أجواؤه الروحيّة والإيمانيّة والتربويّة في نفوسنا وعقولنا وسلوكنا وتطلّعاتنا على مدى العام، فنتابع فيه ما كنّا نقوم به في هذا الشّهر من العبادة والدّعاء وقراءة القرآن والتهجّد في اللّيالي، والصّدقة وإكرام الأيتام وأداء النّوافل وصلة الأرحام والجيران، والتردّد إلى المساجد، والحرص على صلاة الجماعة، فلا ننقطع عنها بمجرّد الانتهاء من شهر رمضان.
نعم، قد لا يكون ذلك بالصّورة الّتي يكون الإنسان عليها في شهر رمضان، حيث الظّروف مهيّأة لذلك مما لا يتوافَّر في بقيّة الشّهور... والأمر نفسه في انضباطنا في كلماتنا وتصرّفاتنا، حيث ينبغي أن تبقى كلمة «إنّي صائم» حاضرة لدينا، في بقيّة السنة بالصّيام عن الحرام، أن نقولها كلّما دعتنا أنفسنا الأمّارة بالسّوء أو شيطاننا أو من يريد إغواءنا، إلى أن نؤيد ظالماً أو ننكر معروفاً أو نفرط بحق أو نرفض إصلاحاً أو نمنع عطاءً أو نهادن محتلاً، أو نصمت على فساد، وبذلك نكون قد نجحنا في ما أراده الله من تحقيق غاية الصيام، وهي التقوى...
إننا نريد للتقوى أن تصبح ملكة راسخة في النفس، منها نستمد الطاقة والقوة للاستجابة لكل ما يطلبه الله منا في كل تفاصيل حياتنا، بحيث لا نطلق كلمة ولا نقدم رجلاً ولا نؤخر أخرى حتى نعلم أن لله فيه رضا، ولن يتم ذلك إلا إذا كانت خدمة الناس والدفاع عن قضاياهم محور حياتنا وغاية آمالنا...
إننا ومع كل المخلصين في هذا البلد نريد لكل قيم التكافل والتعاون والرحمة والمحبة والإيثار أن تسود في حياة الناس وأن تحكم توجهاتهم، فلا يمكن عن أي طريق آخر أن نخفف من آلام الفقراء والأيتام والمحتاجين، بعدما سد أغلب رجال السياسة والمال في هذا البلد كل أبواب الخير على الناس، والذين لا يزالون يتساقطون في هاوية من البؤس يبدو أن لا قعر لها.
ونحن إذ نحصر اهتمامنا وأملنا بأهل الخير للتخفيف من هذه الآلام والأحزان التي تحيط بنا من كل جانب فلأننا فقدنا الأمل من الطبقة السياسية ــ المالية، في أن تقدم حلاً لهذه الأزمة المتفاقمة، ونكاد نفقد الأمل حتى بإمكان إصلاح هذا النظام أكان بسبب بنيته الطائفية التي شوهت معنى الطائفة وأبعدتها عن قيمها أم بسبب عدم قدرة الإصلاحيين أو قلة إمكاناتهم على ممارسة دورهم المطلوب.
ومع كل ذلك، فإننا ندعو جميع اللبنانيين إلى عدم اليأس من إمكان إنقاذ هذا الوطن، فإذا كانت ظروف الحاضر غير مؤاتية فثمة أكثر من أفق يمكن أن يفتحه المستقبل، المهم أن لا تضعف إرادة التغيير والتي لن تتصلب إلا بمقدار ما تتحرر نفوسنا من الخضوع لأهواء الطائفية والمذهبية والعصبية ونتخلص من حال اللامبالاة والخوف، ليطل كل هؤلاء المخلصين لبلدهم ومهما كانت مواقعهم، والمتجاوزين لطائفياتهم وعصبياتهم على مدى الوطن بروح إيمانية وإنسانية وإرادة صلبة ونيات صادقة في ظلال الدين الخالص لله وعزة الوطن وكرامة الشعب، متطلعين إلى بناء دولة المواطنة، دولة الإنسان، الدولة التي لا يغبن فيها أحد أو يخاف منها أحد أياً تكن طائفته أو منطقته أو نسبه، لكنه مسار صعب ومعقد ويحتاج إلى أصحاب الهمم العالية، لكن لا بديل منه إلا هلاك شعب ودمار وطن...