صحيح أن المشهد تقليدي في مجلس الأمن، لكن لا شك أنه يمكن اعتبار مشروع القرار الأميركي مع الفيتو الذي أجهضه، نقطة تحول في الأزمة الفنزويلية، بعد مسلسل من الأحداث الحساسة التي حصلت مؤخراً، من انتخابات صاخبة ومظاهرات وتوتر أمني واجتماعي، على خلفية تجاوزات دستورية، قادها رئيس البرلمان الفنزويلي خان غوايدو، ضد الرئيس الشرعي المنتخب نيكولاس مادورو، ودفعت بهذه التجاوزات ووجَّهَتها جهاتٌ خارجية، على رأسها الادارة الاميريكة.
في الحقيقة، لا يمكن القول إن الفيتو الروسي ـ الصيني ضد مشروع القرار الذي تقدمت به واشنطن سوف يُخرج الأزمة في فنزويلا من دائرة الخطر الاميركي، فكما اعتادت واشنطن على "الفيتو" في سياستها الدولية، ضد أغلب مشاريع قراراتها المشبوهة، والتي كانت دائما تُعَبِّر بشكل أو بآخرعن فكرتها في (محاولة الهيمنة والتسلط) على كامل المسرح الدولي، لا شك انه (الفيتو) سوف يخلق حزامَ أمانٍ معقولاً أمام تنفيذ الأهداف الاميركية.
هذه الأهداف الأميركية في محاولة فرض هيمنتها وتسلطها في أغلب المناطق وعلى أغلب الدول، لم تكن يوماً وليدة الساعة أو نتيجة قرارات متسرعة أو آنية، كان يتخذها رئيس أميركي دون الآخر، بسبب مزاجية خاصة به أو نتيجة استشارات أو توصيات من فريق عمله الخاص، رغم خصوصية شخصية الرئيس الحالي دونالد ترامب ومزاجيته اللافتة، انما يمكن اعتبار ذلك استراتيجية اميركية بعيدة المدى، قامت دائما على مناورة مركبة، يمكن تحديد عناصرها بالتالي:
ـ الانطلاق من ثغرة سياسية أو دستورية تكون موجودة في الدولة المستهدفة، وتعمل الادارة الاميركية من خلال اعلامها وديبلوماسيتها على توسيع وتحريف هذه الثغرة، في تفسير آخر غير مطابق للحقيقة، كعدم دستورية انتخاب الرئيس مادورو ( في موضوع فنزويلا مثلا)، من خلال حرف الحقيقة حول عدم شرعيته لعدم تصديق البرلمان على انتخابه، في الوقت الذي اقدم فيه هذا البرلمان وبادارة من رئيسه المعارض غوايدو، وبتوجيه اميركي، على مخالفة الدستور، من خلال امتناعه عن تصديق الانتخاب، دون أي سبب قانوني أو إجرائي أو اداري.
ـ بعد ايجاد هذه الثغرة السياسية الدستورية، تبدأ الادارة الاميركية، ومن خلال لوبي دولي لا يستطيع الا الانصياع لها، بسياسة العقوبات الاقتصادية المتدرجة، ويترافق ذلك مع العمل على خلق توتر سياسي وأمني، على خلفية الخلاف السياسي، تتم تغذيته بعناوين اجتماعية واقتصادية، ويتم تحريكه بواسطة عناصر مدسوسة، محلية أو أجنبية، تقوم باعمال استفزازية لقوى الامن وللجيش تحت شعار مطالب اقتصادية وسياسية، تُستدرَج من خلالها تلك الاجهزة على مقاومتها بشيء من العنف، خوفا من تدحرجها، فتتدخل المنظمات الدولية (الموجهة اميركياً بالكامل)، وتصوب على حكومة الدولة المستهدفة وعلى اجهزتها، ويختلط الحابل بالنابل بين التوتر الداخلي الموجه، وبين التصعيد والضغط الخارجي المنظم.
ـ الخطوة اللاحقة تكون، عادة، باللجوء الى مجلس الأمن من خلال مشاريع قرارات مشبوهة، ظاهرها انساني اجتماعي، وهدفها الحقيقي تقويض سلطة الدولة المستهدفة اميركياً، وتبدأ رحلة عذاب تلك الدولة اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا وديبلوماسيا، تماما كما هو الحال اليوم في فنزويلا المستهدفة، والتي بالرغم من الضغوط الواسعة عليها، ما زالت صامدة بوجه هذه الهجمة، تستند بالاساس الى شرعية ودستورية حكومتها ورئيسها، وعلى دعم غير بسيط من دول صديقة، لديها خبرات طويلة في مواجهة سياسة الهيمنة الاميريكية، مثل ايران وكوبا وغيرهما، وعلى أغلبية شعبية خَبِرَت معنى وأشكال التدخل والتسلط الاميركي، وعلى جيش متماسك، أقسم الولاء على حماية دستور وقوانين ومصلحة الامة الفنزويلية.
وهكذا، يدور المجتمع الدولي في دوامة محاولة التسلط والهيمنة الاميركية، وتحت شعارات رنانة، فيها غلاف الديمقراطية وحقوق الانسان، تعم الفوضى وينتشرالتوتر في الدول المستهدفة، لانها بالاساس رفضت الانصياع والسير بالسياسة الاميركية، ومن يضعف من تلك الدول ويستسلم، يرضخ لتلك السياسة، ومن يقف بالمواجهة ويحاول المقاومة ورفض الهيمنة الاميركية، يدخل في نفق العقوبات والفوضى السياسية والامنية واستهدافات المجتمع الدولي (الاميركي التوجه).
من هنا تأتي أهمية دورالصين وروسيا في مجلس الامن، واذا ما استثنينا فرنسا وبريطانيا كدولتين من الأعضاء الخمسة الدائمة في مجلس الامن أصحاب الحق بالفيتو، واللتين تدوران ـ في أغلب الملفات الدولية ـ في فلك الولايات المتحدة الاميركية، تبقى ضمانة المجتمع الدولي الصحيحة والعادلة عبر مؤسساته المعروفة، محصورة فقط في كل من روسيا والصين، وما بين الاستراتيجية الاميركية الثابتة نحو الهيمنة والتسلط، وقدرتها الواسعة على المناورة في الدول التي تستهدفها، وما بين موقع كل من روسيا والصين الدوليين في مواجهة الاستراتيجية الاميركية، كخط دفاع رئيسي، سيبقى العالم على موعد مع هذا الاشتباك الدولي الواسع ديبلوماسيا واقتصاديا، مع الامل ببقائه فقط هكذا دون ان يتدحرج ليصبح عسكريا.