ألقى سماحة العلامة السيد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبته السياسية:
عباد الله أوصيكم وأوصي نفسي بوصية الإمام الكاظم(ع) لأحد أصحابه، حين قال له: "أبلِغ خَيراً، وقُل خَيراً ولا تَكُن إمَّعَةً، قُلتُ: ومَا الإِمَّعَةُ؟ قالَ: لا تَقُل: أنَا مَعَ النّاسِ، وأنَا كَواحِدٍ مِنَ النّاسِ... إنَّ رَسولَ اللّه صلى الله عليه و آله قالَ: يا أيُّهَا النّاسُ، إنَّما هُما نَجدانِ: نَجدُ خَيرٍ ونَجدُ شَرٍّ، فَلا يَكُن نَجدُ الشَّرِّ أحَبَّ إلَيكُم مَن نَجدِ الخَيرِ".
إننا أحوج ما يكون إلى هذه الوصية التي تدعونا إلى أن لا نكون في مواقفنا وخياراتنا في الحياة صدى للناس من حولنا، بحيث نقف حيث يقفون ونتحرك حيث يتحركون، ونؤيد من يؤيدون ونعارض من يعارضون، ونسالم من يسالمون ونحارب من يحاربون، بل أن يكون الحق صدى لإيماننا ولقيمنا التي تدعونا إلى الحق والعدل والصلاح حتى لو كنا في ذلك وحدنا وكان الناس جميعاً في خط الباطل ومع الفساد والظلم والانحراف، ومهما واجهنا في ذلك من مصاعب وتحديات وآلام، ومتى حصل ذلك سنكون في أمان عندما نقف بين يدي الله حيث تأتي كل نفس تجادل عن نفسها، ونكون أكثر وعياً ومسؤولية لخطواتنا وقدرة على مواجهة التحديات...
والبداية من فلسطين، حيث تستمر معاناة الشعب الفلسطيني، فعلى صعيد غزة لا يتوقف العدو الصهيوني عن ارتكاب مجازره بحق المدنيين والتدمير الممنهج للبنى التحتية ولكل مظاهر الحياة فيها، والحصار المطبق على أهلها الذي بات يهدد مئات الآلاف منهم ويفقدهم أبسط متطلبات حياتهم، فيما يتوالى وبشكل يومي مسلسل الاقتحامات التي تجري في الضفة الغربية والتي يمارسها العدو على مدنها ومخيماتها ما يتسبب بسقوط المزيد من الشهداء والجرحى والتي وصلت إلى استباحة المستشفيات وقتل من هم على أسرّتها.
لقد أصبح واضحاً أن الهدف الذي يريده الكيان الصهيوني من وراء ذلك كله هو الإجهاز على القضية الفلسطينية وإنهاؤها، بتهجير هذا الشعب من أرضه أو تيئيسه من البقاء فيها أو إخضاعه لسيطرته الكاملة وإفقاده لهويته.
وما يشجع العدو على ذلك هو الدعم الذي يتلقاه هذا الكيان، والذي لم يقف عند حدود الدعم العسكري أو المالي أو الاستخباري، وفي تأمين الغطاء الكافي له في المحافل الدولية، بل هناك ما نشهده اليوم من عمل على قطع شرايين الحياة لهذا الشعب والذي يتمثل بتعليق خدمات الأونروا، هذه المنظمة التي تتولى مساعدة الشعب الفلسطيني في مختلف مجالات الحياة.
إننا أمام ما يجري نتساءل: أين هو موقع الدول العربية والإسلامية في مواجهة هذا المخطط الذي إن حصل سيتسبب بتشريد شعب عربي وإسلامي ويساهم في إسقاط قضيته، والتي إن سقطت فستكون كل قضايا الأمة العربية والإسلامية ومصيرها في مرمى سهام هذا العدو.
في هذا الوقت ورغم كل هذه الجراح والآلام التي يعاني منها الشعب الفلسطيني من هذا الكيان وداعميه والساكتين على جرائمه، فهو يستمر في مواجهته رغم قلة الإمكانات والتقديمات، مسطراً في ذلك أروع ملاحم البطولة والفداء حتى الاستشهاد في مواجهته لآلة العدو العسكرية المتطورة، وفي ملاحقته له في كل المواقع التي يتقدم إليها والالتفاف عليه أو جعله غير قادر على الثبات فيها، في هذا الوقت نشهد مبادراتٍ تسعى إلى إيقاف نزيف الدم ووضع حد للحرب، إننا نأمل أن تنجح هذه الجهود آخذة في الاعتبار حق الشعب الفلسطيني بالأمن والحرية والعيش الكريم والثبات في أرضه، ونحن على ثقة بأن هذا الشعب لن يقدم انتصاراً مجانياً للعدو وإخراجه من المأزق الذي هو فيه وعلى حساب حريته وكرامته وأمنه والتضحيات الجسام التي قدمها.
ونصل إلى لبنان الذي تستمر مقاومته في خيارها بدعم قضية الشعب الفلسطيني، وهي في ذلك تقدم التضحيات الجسام في هذا الطريق شعوراً منها بالمسؤولية في نصرة الشعب الفلسطيني، وإيماناً منها بأن هذا الخيار هو الذي يمثل عنصر ردع لهذا العدو من أية مغامرة قد يقدم عليها تجاه هذا الوطن، وهو الذي لم يتوقف خلال كل تاريخه من إظهار أطماعه وعدائه الشديد لهذا البلد، وإن كان هناك وللأسف من لا يزال يعتبر هذا العدو كالحمل الوديع...
في هذا الوقت يستمر العدو الصهيوني في اعتداءاته على قرى لبنان وتهديده له والتي كان آخرها ما صرح به وزير حرب العدو بأن جيشه "سيتحرك قريباً جداً على الحدود الشمالية مع لبنان"، إلى رسائل الضغط الدولية المتوالية والتي تأتي على طريقة النصائح حتى تتخلى المقاومة عن هذا الخيار.
ونحن نرى أن هذه التهديدات ليست إلا من باب التهويل والحرب النفسية التي يمارسها العدو، بعدما أصبح واضحاً عدم قدرة الكيان الصهيوني على شن عدوان واسع على لبنان بعد الإنهاك الذي تعرض له جيشه ولإدراكه للقدرات التي تمتلكها المقاومة، وأن الحرب معها لن تكون نزهة، ولغياب الضوء الأخضر الدولي، إلا أننا نؤكد ضرورة الحذر حيال تطورات المشهد في المنطقة كلها، وأن نبقى في لبنان على جهوزية حيال تداعيات ما يحصل، وأن تكون الوحدة الداخلية هي الأساس الذي ننطلق منه لمواجهة كل التحديات القادمة لأننا نخشى من أن تسهم الانقسامات الداخلية وبعض المواقف وردود الفعل عليها في إغراء العدو بتوسيع دائرة عدوانه، أو أن تشجعّه على الذهاب بعيداً في مغامراته...
ومن هنا، فإننا نجدد دعوتنا للقيادات الدينية والسياسية والاجتماعية والثقافية والإعلامية إلى ضبط خطابها جيداً أو ردود أفعالها بما لا يؤدي إلى توتر أو شرخ داخلي في وقت أحوج ما نكون للوحدة في مواجهة تحديات الداخل والخارج، ونخص بالذكر القيادات الدينية التي يقع على عاتقها مسؤولية كبيرة في مد الجسور بين اللبنانيين والتركيز على المشتركات الوطنية وتعزيز الوحدة الداخلية، حيث أن دورها الأساس يكمن في أن تكون الأمينة على القيم الأخلاقية والإنسانية والوطنية، فإذا اهتز هذا الدور تهتز أركان الوطن وتتسع الهوة بين مكوناته، وهو ما لا يريده أحد على الإطلاق.
وأخيراً لقد حصل ما كنا نتوقعه بإقرار موازنة جاءت مثقلة بالضرائب والرسوم، التي تشهد تفاصيلها بأنها ستزيد من إفقار اللبنانيين ومعاناتهم، وهم غير قادرين على تحمل الأعباء الحالية..
إننا نخشى من أن الضغط المتزايد على الناس وعدم تقديم المستحقات المطلوبة لهم على مستوى الرواتب بما يلبي احتياجاتهم قد تدفع البلد نحو فوضى اجتماعية يحذر منها الجميع...