ألقى سماحة الدكتور السيد جعفر فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبته السياسية:
إنّ معنى الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشّريف هو أنْ نستعيد – في ذكراه (ص) – معنى الأمّة فينا، دولًا وشعوبًا ومجتمعاتٍ وأحزابًا وحركاتٍ وجماعاتٍ..
أن نكون على الصورة التي تحرّك بها في سيرته، في سلمه وحربه، في قوله وفعله، في مواقفه وتوجّهاته، وفي سياساته وقواعده..
وهذا هو المعنى الحقيقيّ للإسلام الذي ننتمي إليه؛ فليس انتماء الفرد أو الدولة أو الجماعة للإسلام انتماءَ العصبيّة، التي قد ترتكز إلى الجغرافيا أو القوميّة أو النسب أو ما إلى ذلك؛ بل هو انتماء القيمة التي تتجسّد في السياسة والأمن والاقتصاد والاجتماع وسائر مجالات الحياة.
وعلى ضوء ذلك نطلّ على التحدّيات التي تلفح المنطقة العربية والإسلامية، هذه المنطقة التي تعيش في حالة من اللاتوازن، وتواصِلُ رحى التطبيع ضَغْطَها في سبيل ربط الدول العربية بالقاطرة الإسرائيلية، حتّى وأمّة الرّسالة قد حقّقت الانتصارات على هذا العدوّ، وحتّى في الوقت الذي يُمعن فيه العدو قتلاً واقتحاماً واعتقالاً للفلسطينيين، وتدنيساً للمسجد الأقصى، وفي ظل حكومة يمينية تعلن استعدادها للبطش أكثر بالفلسطينيين، واستصدار المزيد من القوانين التي تشرع قتلهم ومحاصرتهم، ومصادرة أملاكهم وتهديم بيوتهم، وبناء المزيد من المستوطنات في الضفّة.
ونحن نرى أن العدو بات يعمل وفق استراتيجية جديدة تقوم على التطبيع مع الدول العربية وعدم الإصرار على التطبيع مع الشعوب؛ لأنّه يرى أن فتح الحدود والمطارات والمرافئ له وربما بناء السكك الحديدية معه لاحقاً، واستثمار الشركات الصهيونية داخل الدول العربية.. كل ذلك يجعله يدخل إلى قلب الساحات العربية ليصبح وجوده طبيعياً في ظل تكريسه لاغتصاب فلسطين وتهويد القدس والمسجد الأقصى.
ولعل المشكلة تكمن في أن الدول العربية التي تسعى للدخول إلى قلب أمريكا من النافذة الإسرائيلية تستعجل اللحظة، ولا تتّعظ من تاريخ هؤلاء المحتلّين عندما يتمكّنون من التجوّل في داخل البيت، فإنّهم لن يرضوا حتّى يكونوا مالكيه، هكذا ثقافتهم العنصريّة والعدوانيّة، والله تعالى نبّأنا عن أخبارهم قائلًا: (أوَكُلّما عاهدوا عهدًا نبذه فريقٌ منهم بل أكثرهم لا يؤمنون) ، و(ذلك بأنّهم قالوا ليس علينا في الأمّيّين سبيلٌ ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون) ، وما إلى ذلك من شواهد قرآنيّة على ثقافتهم التي لا تزالُ ماثلة عمليًا في أكثر من تجربة حديثةٍ، لا في التاريخ في فقط.
إنّه لمن غير المعقول، أن نكون أمّة الإسلام والعُروبة ونتنكَّرَ للانتصارات التي حقّقتها وتحقّقها فصائلُ من قلب الأمّة، لتكون دولُنا، بسياساتها واقتصادها وأمنها، خشبة خلاص للعدو الذي يعيش الاضطراب والانقسام والضعف الذل لم يعشه من قبل بهذه الصورة وهذه الكيفية.
إنَّ أضعف الإيمان أن يتدارك هؤلاء الواقع، وأن يرتقوا إلى تطلّعات شعوبهم التي تشكّل الضمانة الحقيقيّة لهم، بعيدًا عن توازنات الدول المستكبرة، التي إذا تدلُّ تجاربها أنّها (كمثلِ الشيطان إذ قال للإنسان اكفُرْ فلمّا كفرَ قال إنّي بريء منك إنّي أخاف الله ربّ العالمين) .
وإنّنا في أسبوع الوحدة الإسلاميّة ندعو الدّول الإسلامية إلى المزيد من المبادرات التي تعمل على محو آثار الفتن التي عصفت بمنطقتنا، وأن يعمل علماء الأمّة وقياداتها على ترسيخ الأسس لتكون روحيّة الوحدة وثقافتها هي الأساس في إدارة علاقاتها واختلافاتها؛ إذ ليس المطلوب أن يتنازل أيُّ فريقٍ عمّا يعتقد به، بل أن نلتقي على ما اتّفقنا عليه، وأن نتحاور فيما اختلفنا فيها، وأن ننظّم أولوّيات الاختلافات، حتّى لا تتقدّم الأمور الهامشيّة على القضايا الكبيرة.
أما لبنان الذي يستمر في حالة انتظار الخارج أن يأتي بالحلول، في حين يستمرُّ الواقع السياسي على ما اعتاده من آليّات لإدارة الاختلافات، عبر الكيد والمناكفة وتسجيل النقاط والنفخ في الطائفيّة وتغليب المنافع الشخصية على المصلحة العامّة، وتمنّيات الخارج على حاجات الداخل؛ حتّى ليخيَّل إلينا أنّ الوطن إذا خرجَ من الشغور في المواقع السياسيّة، فإنّه يلزمه طويلًا ليخرج من ذهنيّة الحرب التي نزعت بزّة الحرب الأهليّة ولكنّ الكثيرين مستعدّون للابتزاز بها لتعطيل الحلول كلّما لاحت في الأفق.
لعلّ أكثر ما يؤلم المرء في هذا البلد أنّ كثيرين من الذين يملكون زمامه يتحرّكون وكأنّهم مواطنون في دولٍ أخرى من دون أن يحملوا جنسيّاتها!
ونسأل الله العفوَ والعافية.