ألقى سماحة الدكتور السيّد جعفر فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين ومما جاء في خطبته السياسية …
وتبقى البوصلة فلسطين؛ لأنّها اختصار كلّ قضايانا في هذا العصر؛ بل هي مجمع مشاكل العالَم إذا أمعنّا النظر هي عنوان الجور في كلّ هذا النظام العالمي الذي لا يزال كثيرون يريدون منّا تسليم أنفسنا إليه، والتنازل عن كلّ أوراق القوّة التي بأيدينا اتكالًا على ما يدّعي الكيان الصهيوني من "أخلاقيّة" رأيناها في غزّة.
هذا العالم الذي يستمرّ في فعل الجريمة وتغطية ذلك بكلّ الكلام الدبلوماسي المسرحي، فالاستكبار العالمي يواصل دعم "إسرائيل" بكل أنواع السلاح التي تمارس الإبادة، فيما يعد الفلسطينيين بالمساعدات التي لا تسمن ولا تغني من جوع ومجاعة تتفشى في قطاع غزة، وفي المقابل عشرات المليارات من الدولارات تتدفق على الكيان الصهيوني، فيما ستتلقى غزة 400 مليون دولار مساعدات إنسانية، لا ندري كم سيصل منها..
في هذا الوقت تستمر المجازر الصهيونية التي تريد تدمير الحاضنة الشعبية للمقاومة، أو تهجيرها، ولأجل تحرير أربعة أسرى، تُرتكب مجزرة مروّعة بألف فلسطيني.. ولا تسمع أشلاء هؤلاء كلمة إدانة واحدة؛ بل الموقف هو تهنئة الكيان على تحرريهم، وقد اتضح أنّ الجميع شركاء في الجريمة..
ورغم كل ذلك يستمرّ الاستكبار العالمي في تغطية جرائم الكيان في مجلس الأمن والأمم المتحدة وأمام محكمة الجنايات الدولية ومحكمة العدل الدولية والإعلام العالمي، ويواجه طلّاب الجامعات والجماهير الغاضبة على مساحة العالَم.. وفي الضغط على الشعوب والدول من أقصى العالم إلى أقصاه لمنعها من الوقوف أو التضامن مع قطاع غزة المنكوب...
فيما يتجلى المشهد الميداني بوضوح ويتأكد بعد أكثر من ثمانية أشهر بوضوح أنّ العدوّ لم يستطع أن يحقق أهدافه في غزة، ولذلك بدأ ينزل من سفينة العدو وزير هنا ووزير هناك، لأنّها مشرفة على الغرق، وبدأ البحث في المرحلة القادمة، التي يُضغط فيها على الدول العربية، أولئك الذين يسمّيهم الأمريكي: الشركاء الإقليميين، لكي يكون هناك حكمٌ بديل للمقاومة، لكن رياح المقاومة لا زالت أقوى في مواجهة أشرعة العدو الذي يعيش حرب استنزاف ضارية لن يخرج منها سالماً...
أما المشهد ففد بات واضحًا خلال الأشهر الماضية: الدبلوماسية الأمريكية تتحرّك نيابة عن إسرائيل، في تأكيد مقولةٍ للسيد المرجع فضل الله: "ليس هناك سياسة أمريكية في المنطقة، بل سياسة إسرائيلية"، والإبادة الإسرائيلية تنوب عن كلّ النظام العالمي المستكبر بكل أذنابه والمنسحقين أمامه..
ومما حدث ويحدث من حرب إبادة، يجب أن تعي أجيالنا الجديدة أن هذه الحرب تمثل وفي شكل مكثف صورة العدو الصهيوني الحقيقية، والتي حاولت القوى الحليفة المستكبرة للعدو والإعلام وكل أجهزة المخابرات والسياسة على طمسها وتلميعها، وكانوا يحدثون الناس عن أن إسرائيل من خلال التطبيع ستجلب معها السلام والازدهار للمنطقة... وأي خداع وأفخاخ ومستقبل أسود كانوا يصنعونه لنا، وأي سلام مع مثل هذا الوحش الكاسر والمجنون، والذي ينظر إلى الناس على أنّهم مجرّد حشراتٍ وحيوانات بشرية!
وأين كل هؤلاء الذين رفعوا لكم شعارات حقوق الإنسان، من الدول الكبرى ومن المنظمات غير الحكومية الذين يحدّثوننا عن الحرّية المفقودة في بلادنا، أين هي إنسانيتهم، وأين هي حريتهم، وما هو معناها في قاموسهم وما هي حدودها، هي إنسانيّة لا تزال تقسّم الناس إلى أحرار وعبيد؛ عبيدٍ يمكن أن يُزالوا من الوجود.. وسادة أحرار يسيطرون على الأرض ولو على جماجم أهلها...
إنهم لا يريدون من أوطاننا أن تكون حرة ومستقلة، أنهم يريدون بلداننا سائبة تفتح مجالها كأسواق لمنتجاتهم، وطاقةً لتشغيل مصانعهم، وأموالًا للترفيه عنهم وإشباع رغباتهم ونزواتهم..
المستكبرون لا يرون بلادنا إلا آبار نفطٍ وغاز.. ولا يرون شعوبنا إلا أيدٍ عاملة رخيصة تستهلك ما يصنعون وتلبس مما ينسجون، ولهذه الشعوب الحرية أن تتحرك، ولكن كما يتحرك السجين في سجنه وفي ظل ديمقراطية تماثل ديمقراطية السجون، على أن يكون الجميع تحت حكم الرجل الأبيض وسلطته.
وعلى الرغم من كل المآسي والآلام فنحن في نعمةٍ، أنّ أجيالنا باتت تعرفُ أكثر، والمطلوب أن يتمأسس هذا الوعي، ويصبح جزءًا من مفردات حياتنا اليومية، لنستذكرها كما هي الصلاة اليومية.. حتى يأتي الله بأمره.. وهو الذي قال لنا: (والله غالبٌ على أمره ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون).
أمّا في لبنان، فلا ينبغي أن يتصرف اللبنانيون وكأنّهم في جزيرة معزولة عمّا يجري في غزّة وفلسطين، وعمّا يتحرّك في أنحاء العالَم..
إنّ الانتخابات أو عملية بناء الدولة أو استثمار الثروات ليس بيد اللبنانيّين مع الأسف؛ لأنّ الإرادة مستلبة من خلال الدولة العميقة الممتدة خيوط التحكم بها في أروقة قوى الهيمنة العالمية..
وأمّا اختراق ذلك، فيتطلّب روحيّة مقاومة في السياسة والاقتصاد كما في الأمن، مستعدة لتحمّل التبعات الناتجة من مخالفة النظام العالمي الجائر ومصالحه الاستكبارية، وإلّا فالفتن الداخلية وحتّى سيناريو غزّة يمكن أن يمتد إلى لبنان، لولا أنّ هناك من المقاومين والمستعدين للدفاع حتى الشهادة عن الوطن وعن كل ما أمر به الله من قيم الحق والعدل والخير في هذا العالَم، بلا منّة على أحدٍ، ولا يطلبون في ذلك جزاءً ولا شكورًا.. وهم الذين يشكلون صمام الامان وقوة الردع لمنع العدوّ وجبهة الاستكبار معه من تنفيذ تهاويلهم بالحرب الشاملة..
إنّ بناء الأوطان لا يُبنى إلا بإرادة أبنائها ووحدتهم واستعدادهم للتضحية، كما في ساحات الجهاد، كذلك في السياسة والاقتصاد وحماية الثروات..